ما بعد جريمة الإسكندرية

04:24 صباحا
قراءة 5 دقائق

كتبت في هذا المكان يوم 16 مارس/ آذار الماضي، مقالاً عن مسيحيي الشرق، إثر عودتي من اجتماع للفريق العربي للحوار الإسلامي - المسيحي، عقد في القاهرة، أشرت فيه إلى المناخ المشحون بالتوتر والاحتقان في المجتمع المصري، وحذرت من تدهور خطير في العلاقات بين الأقباط والمسلمين المصريين .

وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، عدنا للقاهرة ثانية، للمشاركة في مؤتمر حول المسيحيين العرب، نظمته جامعة القاهرة، بحضور عدد كبير من النخب الناشطة في الحوار الإسلامي - المسيحي، كان من بينهم رجال دين ولاهوت وأكاديميون وباحثون، من مصر ومن دول عربية أخرى .

كان المشهد في هذه المرة، أكثر تشجناً وعصبية، داخل المؤتمر وخارجه، وبدا لي أن مصر الكنانة، تفقد أعمق خصالها، وتطفح بتوتر طائفي ديني غير مسبوق، وصل إلى عقل الكثير من النخب المثقفة . كان هناك شعور عميق سائد بالعجز عن مواجهة هذا الاحتقان ويغذيه خطاب سجالي، على مستوى الفضائيات، وبدت لي القاهرة وأحياء شبرا والعباسية، وعشوائيات عديدة، وكأنها قيعان مليئة بالحصى، بعد أن هجرها ماء العيش المشترك والخوف والشكوك المتبادلة . كان القلق حقيقياً، لكن من أسف، فإن الدولة، بمؤسساتها التنفيذية والتشريعية والمجتمع المدني، ظلت تستهين بهذا الاحتقان، وترى في الظاهرة السلبية مجرد خطر متوهم، وحتى حاسة الاستشعار الأمني، بدت وكأنها مصابة بزكام يعطل القراءة الصحيحة للمشهد .

ورغم أن العيش المشترك، مصلحة وطنية عليا، ومطلب أخلاقي وإنساني في آن، إلا أن منطق الحدود الدامية بين مكونات العديد من المجتمعات العربية، هو المنطق السائد، بدرجات متفاوتة في العراق والسودان واليمن ولبنان وغيرها، حيث تنحسر مساحات الحوار والاختلاط والتمازج والتفاعل والثقة .

ما الذي جرى، حتى اتسعت حقول الاقتتال والاحتقان والتوتر والفتن؟ من الذي يتحمل مسؤولية ترحيل الملفات الشائكة، ويعتمد المسكنات للتهدئة أو الحلول الأمنية الصرفة؟ ما هي نسبتنا كحكومات ومجتمع مدني في ما جرى من مذابح العراق الطائفية وصولاً إلى مذبحة الإسكندرية الأخيرة، ومأساة دارفور وتذرر السودان، وحروب القبائل الايديولوجية والمذاهب والاثنيات، واضطرابات الفقر والبطالة وضيق العيش وانسداد الآفاق وفقدان الأمل؟

ما نسبتنا في مسببات وحوافز الانحراف في الوعي الديني، وارتفاع منسوب العنف والغلظة ورفض الآخر؟

ما جدوى استمرار القول بأننا عرضة لمؤامرة خارجية أو أنها مؤامرة على الوطن . . في حين أن معظم مشكلاتنا المجتمعية ذات الصلة بانقساماتنا ولحمتنا الوطنية وبالخلل في سلمنا الأهلي، لا تنشب فجأة وإنما عمرها مديد وممتد على مدى عقود؟

إنها أسئلة موجعة، تؤرق النفس، وتبدو كصاعق يصيب الرؤية ويؤدي إلى الزوغان .

لنعترف بأن هناك أزمة ثقة بين الدولة العربية والمجتمع . صحيح أن هناك حضوراً أمنياً كثيفاً عند اندلاع المشكلة، لكن صحيح أيضاً أن الحضور السياسي خفيف للغاية، لا يلهم ولا يوجه، وتُرك المجتمع وحده، يعيد ترتيب حياته ومعيشته في غياب الدولة، ويبحث عن بدائل تسد حاجات الناس، وتقدم لهم الخدمات الدنيوية من مساعدات وتعليم وصحة وخدمات اجتماعية وتوعية، وهنا يبرز دور الكنيسة والمسجد والجماعة والطائفة والقبيلة . . الخ .

وهكذا، فإنه كلما تراجع دور الدولة الراعي والضابط تقدم دور الهويات الصغرى، فتكبر على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وبخاصة حينما يغيب المشروع الوطني الذي يستحق الدفاع عنه الاندماج فيه .

في مصر، هناك ضغط شديد يجري على أعصاب الأمن القومي المصري ويحتاج منا كعرب الاسهام في تنفيسه، وإزالته، بدءاً من إعادة الحيوية والحياة والتماسك إلى الوحدة الوطنية، والتي هي عصب رئيسي في منظومة الأمن القومي المصري، وانتهاء بإعمال أعلى درجات الدعم والحكمة والفعالية في مواجهة تداعيات الزلزال السوداني، وعلى رأسها ضمان تدفق مياه النيل .

إن الخطوة الأولى في اتجاه الانقاذ، لابد أن تبدأ في مصر نفسها، ولعل ظاهرة المقاومة المدنية والشعبية والرسمية والدينية للفتنة الطائفية إثر مذبحة الاسكندرية تشكل حافزاً للبيروقراطية المصرية، ولمثقفي مصر وقواها الحية، لكي تقدم على خطوات جريئة وملموسة، لمعالجة المسألة القبطية من جذورها، ولتعيد الاعتبار لدولة المواطنة المصرية، ولمأسسة التعايش المشترك والحوار الصادق بين مكونات المجتمع .

أليس من الغريب، أن يتأخر تأسيس لجنة للحوار الوطني المسيحي الإسلامي في مصر عقوداً عدة، حتى تحضر مذبحة الاسكندرية؟ أين كانت المرجعيات الدينية، والفيروس الطائفي يتسلل إلى الدورة الدموية لمجتمع لديه ما يكفيه من الهموم والشقاء؟

إن الحوار لا يستقيم بغير احترام الخصوصيات والمشاعر والرموز والمقدسات الإسلامية والمسيحية ووقوف الطرفين معاً ضد أي امتهان لمقدسات أي منهما أياً كان مصدره .

أما المواطنة، فهي مشاركة في الوطن، وما يترتب على الانتماء إليه من واجبات وحقوق يجب كفالة أدائها، والتمتع بها مهما يكن دين المواطن أو عقيدته .

وتبقى حرية اختيار الدين حرية فردية، والتبعات الدينية المترتبة على هذا الاختيار في كل دين، يقررها أهله، إعمالاً لنصوصه وأصوله، أما التبعات القانونية، فتقررها الدساتير والقوانين الوطنية .

هل تدرك المرجعيات المهتمة بعافية العلاقات المسيحية - الإسلامية، وبالهوية الوطنية الجامعة، هذه المنطلقات المتعلقة بالحوار وبالمواطنة ومبادئ العيش المشترك؟

هل تدرك مدى مخاطر الغلو والتطرف والعنف على نسيج الوحدة الوطنية؟ وهل تدرك النخب ونجوم الفضائيات، مخاطر الخطاب السجالي والتحريضي والتجريحي المثير للشكوك والمخاوف والذي يفتقر إلى قاعدة معرفية جادة بجوهر الأديان والعقائد؟

. . . . . . . .

. . . . . . . .

مذبحة الإسكندرية، نمط وحشي للإقصاء، يهجع في عالم سفلي لبشر مرضى نفسياً، لا يشعرون بأنهم جزء من عائلة بشرية واحدة . المهم ألا نعود إلى المربع الأول، ونتحدث عن مؤامرة على الوطن، أو نقول إن مسلمين كثراً يقتلون في العراق يومياً، تبريراً أو تخفيفاً لبشاعة جريمة الاسكندرية .

إن ذلك، مجرد مقاربات قصيرة النظر، لأزمة تطال عصب المجتمع المستقر المعتدل والمنفتح في مصر .

إنها ليست فتنة عابرة، إنما تجري في ظل توفر حاضنات دافئة، ومجتمعات أصابها العياء، فوقعت الحوافر على الحوافر، كما كان القدامى يقولون . وها هي العدوى الطائفية، تتنقل من مكان إلى آخر، وأسبابها لاتزال هاجعة، وتضع أوطاناً عدة على قائمة الإنهاك .

إن ما يصيبنا بالهلع، ليس وقائع هذه المذابح والفتن الطائفية، رغم أنها كارثية بامتياز، وليس سياق هذه الجرائم الإرهابية، ومن ارتكبها، وإنما تلك المعالجات المبتورة، والأساليب العوراء التي يتم من خلالها استقراء الأسباب والوقائع، والتعامل غير الجاد وغير الجذري معها .

إن التأقلم مع هذه المحن الطائفية، هو وصفة ناجحة لبلوغ المجتمعات خريفها مبكراً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"