محاكم الشعوب ومحكمة التاريخ

02:40 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

«كورونا» يزداد شراسة، والعالم يزداد هلعاً، وحرب الإنسانية ضد الفيروس اللعين تزداد اشتعالاً. جيوش كبرى تستدعي الاحتياطي، وتنسحب من قواعد وأراضٍ تعسكر فيها منذ عقود، وجيوش تسهر على حماية الأرواح من القاتل الخفي الذي يطور نفسه، ويغير من أساليبه؛ لإصابة أكبر قدر من بني البشر، يباغت الناس من حيث لا يدرون، ويتعامل مع كل من يسكن الأرض على أنه هدف له..
تحالفات تتصدع، وحكومات أصبح شغلها الشاغل، الحد من ضحاياه ومراقبة أفعاله، ورصد من يتجاوزون الحظر، ويقدمون أنفسهم وغيرهم قرباناً ل«كوفيد 19» من دون أدنى إحساس بالمسؤولية، ووسائل إعلام عالمية، تحولت إلى أجهزة عد وإحصاء للضحايا الجدد من القتلى والمصابين، وأخرى تسعى إلى نشر بعض الأمل؛ بالتركيز على المتعافين الناجحين في قهر الفيروس، أما الأفراد فأصبحت مهامهم خليطاً من أدوار الحكومات وأجهزة الإعلام؛ من خلال مبادرات ذاتية للتوعية والإرشاد والعد والإحصاء مع الرصد، وترقب ما ستحمله لهم الساعات المقبلة من مفاجآت.
بعض المترقبين لا يكتفون برصد الأخبار، وجهود الإنقاذ؛ لكنهم يقومون بتحليل البيانات المتاحة، وقراءة التطورات، والبحث في عواقب هذه الكارثة على مستقبل البشرية، وما ستحمله من مفاجآت وتغييرات على خريطة العالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالتغيير قادم لا محالة، وبعد أن تزول الغمة لا بد من كشف حساب، سيرفع البعض من حكام العالم وسياسييه إلى ما فوق السحاب، وسيهوي بالبعض إلى قاع سابع أرض؛ وذلك حسب أداء كل صاحب قرار في الأزمة، وما فعله لتجنيب شعبه وشعوب الأرض الخسائر الكبرى، أو العكس.
بعض الزعماء أبلوا بلاء حسناً في هذه الأزمة، ولم يكتفوا بإجراءات حماية شعوبهم فقط؛ ولكنهم مدوا يد الخير والمساعدة والتضامن للآخرين، وهو النموذج الذي جسّده صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي طرق جميع الأبواب؛ ليمد لأهلها أيادي العطاء الإماراتية، أملاً في مساعدتها على تجاوز المحنة؛ ولتأكيد ضرورة تنحية الخلافات اليوم، وعدم ترك أحد يواجه الوباء وحيداً.
بعض الرؤساء والزعماء تعاملوا مع «كورونا» منذ تفشيه في ووهان باستهانة، واعتبروا أنفسهم وشعوبهم بعيدين عنه، ولم يتخذوا أي تدابير؛ لتجنب انتشاره وطغيانه، وما هي إلا أيام حتى وجدوا شعوبهم في مرمى الإصابة والموت؛ بل إن الفيروس دخل إلى مكاتبهم، وأصاب المقربين منهم، ثم ما لبث أن اقتحم بيوتهم، وتسرب إلى صدورهم، وأجبرهم على عزل أنفسهم وإدارة دولهم عن بُعد، وهم يعانون أعراضه المهلكة، وهم الذين يفترض أنهم محصنون بالمستشارين والإجراءات الاحترازية المختلفة للحماية، باعتبارهم رموزاً، من السيئ والأسوأ.
الغريب أن من يوشَك إعلان رسوبهم في امتحان «كورونا» معظمهم من كبار قادة العالم الذين نجحوا في تحريك الجيوش والطائرات؛ لقتل وإبادة البشر هنا أو هناك؛ ولكن فشلهم في اتخاذ قرار سليم لحماية أرواح شعوبهم، وصل إلى حد العجز، وكأنهم لا يجيدون سوى اتخاذ قرارات الحرب والعدوان والقتل.
تقاعس أو فشل هؤلاء الزعماء في مواجهة «كورونا»، لن يهدد مستقبلهم السياسي فقط؛ ولكنه أيضاً سيخلخل قيمة آخر حضارات العالم، وهي الحضارة الغربية التي أخذت البشرية إلى القمة في مجالات التكنولوجيا والتواصل، وجعلت العالم قرية صغيرة، ثم عجزت عن حماية نفسها من قاتل خفي؛ وكان من المنتظر منها ألا تحمي شعوبها فقط من هذه الجائحة؛ بل أن تحمي الكوكب كله بسكانه ودوله وحكوماته، فالكبير إن لم يكن كبيراً وقت المحن والأزمات، لن يفرض على الآخرين نفسه كبيراً في الأوقات العادية، ولن تكون كلمته مسموعة في أوقات الرفاه.
الصورة الذهنية الموروثة عن النظام الصحي الغربي، أصبحت اليوم مشوشة، وسيغير الكثيرون من الباحثين عن علاج خارج دولهم مقاصدهم مستقبلاً.
«كورونا» خلخل الاتحاد الأوروبي بالفعل؛ بعد أن عجز قادته عن التضامن والتصدي جماعياً للوباء، والنتيجة تلاسن وتبادل اتهامات؛ بل أدارت معظم دوله ظهرها لأشقائها، رافعة شعار «وحدي ومن بعدي الطوفان»، وليصدق فيهم قول الله تعالى «لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ».
كشف حساب «كورونا» سيكون عسيراً على دول ورموز، ومحاكم الشعوب لن تغفر لمقصر ولن تتوانى عن إيقاع أقصى عقوبة على كل متخاذل وفاقد للوعي والحكمة، أما محكمة التاريخ فستعيد ترتيب القوى، وستبدّل مواقع وتغير أولويات، وكل ما نتمناه أن تصدر محاكم الشعوب ومحكمة التاريخ أحكاماً عادلة؛ لأجل مستقبل أفضل للإنسانية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"