مشروع محمد بن راشد “في كل بيت شجرة”

03:43 صباحا
قراءة 4 دقائق

في القديم، وأقصد بالقديم حتى النصف الأول من القرن الماضي ومستهل النصف الثاني، كانت البيوت الإماراتية مكونة من نوعين من البناء، من سعف النخيل وجريده، أو من الجص والحجر المرجاني الذي كان يستخرج من الخيران (جمع خور)، وما من إماراتي مخضرم إلا وعاش جزءاً من حياته في مثل هذه المنازل التي كانت شائعة في المنطقة الشرقية من الخليج، لاسيما في الأماكن التي يكثر فيها النخل كالإمارات وساحل عمان - أو الباطنة .

وكان من النادر أن يخلو بيت من وجود شجرة في وسط (الحوش) (1)، أو في زاوية منه يستظل أهل البيت بها ويأكلون من ثمرها، وغالباً ما كانت هذه الشجرة نخلة أو سدرة تنبت نبقاً، وكان (الخرس) أو زير الماء أو جرة الماء الذي يشرب أهل البيت منها، توضع محاذية لجذع الشجرة، حيث تستقي الشجرة من نضح الرطوبة الذي يخرج من الفخار المصنوع منه الزير أو الخرس أو الجرة . وكان القليل من أهل اليسر من يملكون في ضواحي المدن مزارع أو (زرائب) كما تسمى في اللهجة المحلية، وكانت مدينتا دبي والشارقة من أكثر مدن الإمارات التي تحيط بها الزرائب ذات النخيل الباسقة وآبار المياه العذبة .

وقد جاءت فكرة تشجير الشوارع وإقامة الميادين المشجرة والبستنة الزينية في منتصف الستينات وما بعد، لكي تكون ظاهرة حضارية جديدة أخذت بها بلديات المدن الإماراتية . وأول بلدية تتخذ من هذه الظاهرة منهاجاً هي بلدية دبي، حيث أقامت قسماً خاصاً للزراعة وتجميل المدينة بالشجر، وكنت أنا، كاتب هذه السطور، موظفاً في البلدية (1958-1979)، وكانت إحدى المسؤوليات الملقاة على عاتقي الإشراف على هذا القسم، وجُلبت إلى مدينة دبي أشجار جديدة على بيئتها مثل، الفيكس ناتيدا والكازورينا، وأنواع من الأكاسيا والبونسيانا وغير ذلك، وأقامت بلدية دبي أول مشتل لأشجار الزينة في الإمارات في هور العنز، وأول حديقة عامة واسعة يكثر فيها الشجر البيئي الإماراتي في منطقة مشرف من قبيل شجر الغاف والسدر والأرطة والرّمث (2) .

وكان الشيخ محمد بن راشد إذ ذاك مسؤولاً عن الأمن العام، وكان مهتماً بالأمن البيئي اهتماماً كبيراً، وكان يشجع البلدية بزيارات ميدانية متكررة لمرافقها الزراعية، وكنت أسمع من سموه كثيراً من عبارات التشجيع عن الخطة الخضراء للبلدية . وخلال الربع الأخير من القرن الماضي توسّعت الرقعة الخضراء في مدينة دبي توسعاً هائلاً بفضل الاهتمام الذي يبديه سمو الشيخ محمد بن راشد، وتقديمه الدعم المعنوي والمادي لهذا المشروع، إذ أصبحت حدائقها البستنية مضرب المثل . وما مشروعه الحيوي ومبادرته لغرس شجرة الاتحاد بمناسبة العيد الواحد والأربعين لقيام الاتحاد في مقر مبنى الاتحاد في (جميرا)، ودعوته لغرس الشجرة في كل بيت، إلا امتداد لاهتمام سمو الشيخ محمد بهذه الظاهرة الحضارية الجميلة .

وليس هناك منظر بهيج ترتاح إليه النفس كالرقعة الخضراء التي تولدها الأشجار، وكلما كثر الشجر ازدادت النفوس فرحاً ورانت عليها السكينة . ولا يبلغ جمال المدن أي مدى إلا إذا غطت شوارعها وطرقاتها وميادينها الشجر . . ولا تقتصر فائدة التشجير على المنظر البهيج، بل يتعدى ذلك، إلى أن الشجر ينقي البيئة والجو المحيط، ويمتص التلوث والأتربة الغبارية، ويجلب الهواء النقي، ويكثر من هطول الأمطار .

ولا أعلم عن الشجرة أو الأشجار التي وقع عليها الاختيار لتكون شجرة الاتحاد، ولكن أعتقد أنها ستكون شجرة من البيئة الإماراتية التي تعود بمنشئها إلى الصحراء التي تحيط بالإمارات وبساحل عمان المجاورة . . وأحسن شجرة بيئية وأكثرها التصاقاً بالإمارات هي شجرة الغاف، التي تسمى في علم النبات بشجرة الصحراء العربية من عائلة الأكاسيا ذات الأنواع المتعددة، أكاسيا أرابيكا (Acacia Arabica) .

وتقف هذه الشجرة الطيبة، الغاف، شامخة عالية تصارع الزمن، وقد يبلغ عمرها قرابة المائتين من الأعوام أو ما يزيد، وهي تقاوم الجفاف الصحراوي وتستقي من الرطوبة في الجو، عندما تكون في سن النشء، وتمتص جذورها الماء من الأرض عندما تكتمل جذورها وأفرعها العلوية .

وللغاف منافع لأهل الصحراء، وبأطراف جذورها يقطعها أهل البادية علفاً لمواشيهم وخاصة الجمال، وأوراق الغاف يأكلها الناس كسلطة مع الأرز ومرق السمك، وهي من الخضار المفيدة وفيها من المعادن مايعادل السبانخ والخس وغيرهما من ذوات الأوراق الخضراء .

وكانت دبي محاطة في ضواحيها بأحزمة من هذا الشجر المفيد، وخاصة في جهة الجنوب لبر دبي، ناحية زعبيل الحالية . وفي وصف للشاعر الكبير مبارك العقيلي لمنطقة زعبيل عندما انتقلت إليها المغفور لها الشيخة أم راشد، حصة بنت المر، في الثلث الأول من القرن الماضي، وبنت هناك منازل لها وللحاشية . . يخاطب العقيلي الشيخة أم راشد:

واخترتِ للنفس في زعبيلَ متنزهاً

ففاز بالقدمِ الميمون زعبيلُ

وفيها يصف الغاف:

كأنما الغاف ليناً في تمايله

خود بملهى به للرقص تمثيلُ

وطالما نحن في ذكر الشجر والبستنة، فإننا نتذكر المغفور له الشيخ زايد بن سلطان ونترحم عليه، لأنه أحدث ثورة عارمة في مشروع البستنة، وجعل من مدينة أبوظبي وضواحيها وتوابعها مضرباً للمثل في كل ما يتعلق بالتشجير والحفاظ على الأشجار البيئية المحلية، وكان لشجرة الغاف التي أتينا على ذكرها نصيب كبير من اهتمام الشيخ زايد، وتشاهد هذه الشجرة باسقة وشامخة في شوارع أبوظبي والعين .

(1) الحوش: فناء المنزل

(2) أسماء عربية ومحلية لأشجار الصحراء العربية

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"