مصر بين الغليان والاستقرار

04:31 صباحا
قراءة 4 دقائق

تعيش مصر وبالذات القاهرة في غليان سياسي، لكن هذا الغليان لا يشمل عموم المصريين (85 مليون نسمة) . فهناك قطاعات عريضة من الطبقة الوسطى مازالت تنشد الاستقرار، وتأخذ على الحكومة غيابها عما يعدونه غياب القانون واستمرار البلطجة وأخذ القانون باليد .

هذه خلاصة انطباعات من يزور العاصمة المصرية هذه الأيام . المناخ الثوري مازال مستمراً في أوساط سياسيين وحزبيين وأكاديميين وإعلاميين وعمال وأدباء وفنانين . ثورة 25 يناير لم تحقق أهدافها بعد، والإخوان المسلمون خطفوا الثورة ويسعون إلى أخونة الدولة . هذا ما تقول به قوى يسارية وديمقراطية وعلمانية، يرى قسم كبير منهم أن للولايات المتحدة يداً طولى في تمكين الإخوان، والصحف المستقلة والحزبية اليومية والأسبوعية وكذلك القنوات التلفزيونية، تصدح بمثل هذا الخطاب .

قوى الاستقرار غير المسيسة تأخذ على الأحزاب والتيارات السياسية، أنها تشجع التظاهرات والإضرابات والاعتصامات المهنية الفئوية المتنقلة التي تعيق عجلة الاقتصاد وعودة الحياة الطبيعية، وهو ما يمكن استشفافه من أحاديث مالكي المطاعم والفنادق الصغيرة وسيارات التاكسي وصغار الموظفين، بينما القوى المسيسة ذات الخطابات المتعددة وبعضها ذات خطابات دينية كتنظيمات الأقباط، تلتقي على أن الثورة قامت بتغيير الوجوه من دون تغيير في السياسات والممارسات التي سادت في عهد مبارك .

الدولة ليست غائبة، فالدوائر والمرافق الحكومية تعمل بانتظام، غير أن الحضور الأمني السلطوي ينحسر في الشارع . رجال شرطة المرور هم الحاضرون فقط وبأعداد قليلة، وفي المظاهر الاحتجاجية يغيب رجال الشرطة ولا تحدث احتكاكات تذكر مع المحتجين، ما يساعد على تخفيض مستوى التوتر، ومع حالة الهدوء الأمني لهذه المظاهر، فإن الفضوليين لا يجدون ما يثير فضولهم ويمضون إلى سبيلهم!

على أن الأمر الأكثر غرابة هو أن السياسين والقضاة والأكاديميين والإعلاميين، يملأون الصحف بمقابلاتهم وتصريحاتهم وكتاباتهم، فيما تنحسر المواقف والتصريحات الرسمية، فيكتفي مسؤول كبير مثل نائب الرئيس محمود مكي بالقول إننا على مسافة واحدة من جميع التيارات السياسية والحزبية، وليس واضحاً إن كان المقصود أنه في موقعه نائباً لرئيس الجمهورية يتخذ هذا الموقف، أو أن هذا الموقف يشمل الدولة جميعها .

في جميع الأحوال يتعرض النظام الجديد لضغوط داخلية شديدة لا تهدأ من اليساريين والليبرابين والناصريين والعلمانيين . . ومن السلفيين وتنظيمات الأقباط وأنصار النظام السابق . والتحدي الذي يقف أمام النظام هو في الاتفاق مجدداً على تشكيل الجمعية التأسيسية التي ستضع الدستور الجديد والانتقال من ذلك إلى الانتخابات النيابية (مجلس الشعب) . حيث يرى المعارضون الكثر أن الجمعية يطغى عليها الإخوان، بينما ترى تيارات في الإخوان ومعهم السلفيون، أن مجلس الشعب الحالي شرعي، وأن قرار حله لم يكن شرعياً .

فيما تسود الانقسامات القوى والتيارات السياسية والاجتماعية المختلفة، وتتراشق الاتهامات بينها ما يشكل مادة إعلامية غزيرة يصعب على المتابع الإحاطة بها . ومازال عمرو موسى مرشح الرئاسة الخاسر يعمل على جمع 23 حزباً وتياراً، أبرزها حزب الوفد في تيار عريض باسم تحالف الأمة يعمل على بناء المدنية وإرساء حكم القانون، من دون إعفائه من حملات التشكيك بجدوى وجدية خطوته .

الغليان السياسي هو ثمرة يقظة قوى سياسية واجتماعية تسعى إلى تكريس المناخ الثوري وحرية التعبير الواسعة، بعد طول كبت عانوه من النظام السابق وبالذات من أجهزته الأمنية . بين هذه القوى هناك تنظيمات قليلة يسارية خصوصاً، هي التي تبدي اهتماماً فائقاً بارتفاع كلفة المعيشة وزياردة الضغوط والأعباء على الفئات الفقيرة والأشد فقراً (41 في المئة من المصريين)، وهذه القوى ترى أن البرنامج الاقتصادي للنظام الجديد هو نفسه برنامج نظام مبارك، وأنه يحظى بالرضى الأمريكي، وأن مزيداً من الإفقار ينتظر المصريين في العهد الثوري الذي تتمحور سياسته على أن تسعة أعشار الرزق في التجارة . . الحرة .

أما الشارع غير المسيس فيرى أن الثورة بمنزلة فيلم طويل لا ينتهي، وأن أصحاب هذا الفيلم لا يريدون له أن ينتهي، وأن أعمال البلطجة وتجاوز القانون، إضافة إلى التظاهرات والاعتصامات المتنقلة، تحرم المصريين من العودة إلى الحياة الطبيعية . وبعض هؤلاء يؤيدون سراً النظام السابق، وأكثريتهم ليست ضد التغيير الذي حدث، شريطة عودة الاستقرار، ويستغربون ما يعدونه تراخياً في تطبيق القانون، وغياب الحكومة .

ومن الواضح أن هذه الأجواء مرشحة للاستمرار، فالأوضاع الاقتصادية الصعبة غير قابلة للحلول خلال بضعة أشهر، والصراع الفعلي على هوية الدولة مدنية أم دينية وشبه دينية سوف يتواصل، وحرية التعبير الواسعة مكسب يسعى الجميع إلى إدامته واستثماره (كما هو الحال في لبنان والمغرب مثلاً)، والاستقرار الدستوري دونه عقبات جدية، مع الانقسامات الكبيرة بين طيف اجتماعي وفكري عريض والتدافع ما بينها، غير أن ما يثير الاطمئان هو عدوم برز أي نزعة عنفية أو تبشير بالعنف لدى القوى السياسية المختلفة، باستثناء الخشية من تنامي دور السلفيين في الأوساط الشعبية الأشد فقراً أو أن يكون لتنظيمات جهادية وتكفيرية في سيناء امتداد ما في عمق البلاد، أما العنف اللفظي والسخرية المُرّة فهو قائم إلى إشعار آخر وتطفح به عشرات المطبوعات والقنوات التلفزيونية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"