مصر والعرب

02:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي
إنها علاقة عميقة وقلقة في الوقت ذاته، تضرب بجذورها إلى ما قبل التاريخ المكتوب، هي علاقة فيها كل مظاهر وسائل التواصل بين الأمم والشعوب، فيها الحب المتحفظ، والغيرة البريئة، والتنافس المكتوم، فالعرب يحبون مصر، أرضاً وشعباً، ولكن مشاعرهم تتأرجح بين وقت وآخر، وخلال فترة زمنية محددة، فالتاريخ العربي المصري حافل بكل أنواع الاشتباك الإنساني الذي لا حدود له، ومنذ وفد الإسلام على مصر وقد حمل العروبة على كاهله، إلى أن بدأت الصلوات في الكنائس القبطية تتم باللغة العربية في بداية العصر الفاطمي، وهو ما اعتبرناه الميلاد الحقيقي الذي نرجع إليه عند تحديد الهوية العربية للدولة المصرية.
ولا شك في أن العامل الثقافي هو المتغير المستقل في العلاقات المصرية العربية، فعلى أساسه تشكل النسيج القومي للمنطقة بأسرها، ولقد أثبتت الدراسات الحديثة أن القومية مسألة ثقافية بالدرجة الأولى، فالدين المشترك، والجوار الجغرافي، والاندماج التاريخي، لا تنهض كلها بديلاً لوحدة اللسان القائم على ركيزة ثقافية ثابتة، ولكي نَبسُط القضية من جوانبها المختلفة فإننا نطرح المحاور التالية:

* أولاً: لا يختلف اثنان على أن مصر تمر حالياً بظروف صعبة، ولكن ذلك لا ينزع عنها قيمتها المحورية، ولا دورها المركزي، فحضارتها القديمة ملهمة، وقواتها المسلحة هي واحدة من العشر الأولى في العالم، فضلاً عن دورها التنويري والثقافي المستمدين من قوتها الناعمة، لذلك فإن مصر عصية على السقوط، وقد واجهت عبر تاريخها الطويل نكبات، ونكسات، ومشكلات، وأزمات، ولكنها عبرت ذلك كله لأنها الكنانة (المحروسة) دائماً، وهي كما يقول بعض العرب (عمود الخيمة). ولابد أن أعترف هنا بأن معظم الشعوب العربية تنظر إلى مصر بحب وإكبار، وترى فيها الشقيقة الكبرى برغم، كل ما عانت، وعانى معها أشقاؤها، وقد يتطرف بعض العرب فيحمّلون (العصر الناصري) ما لا يجب، ويتهمون (العصر الساداتي) بما لا يجوز، ويقفون أمام ثورة يناير 2011 بانبهار مشوب بالأسف للتطورات التي آلت إليها.

* ثانياً: إن العسكرية المصرية ظلت عبر التاريخ منذ واجه (أحمس) جحافل (الهكسوس)، ومصر تقف في صمود دفاعاً عن المنطقة، سواءً في (حطين)، أو (عين جالوت)، أو (حرب 1973)، فلديها خير أجناد الأرض، كما قال الرسول الكريم، عندما أوصى بها، ودعا لها، حتى أصبحت مصر هي الحصن والملاذ، هي الدرع والسيف، خصوصاً أن التحديات المحيطة بالوطن العربي كثيرة وشرسة، إن مصر حاربت خمس حروب في مواجهة «إسرائيل» هي حروب 1948، 1956، 1967، حرب الاستنزاف ثم العبور العظيم عام 1973وانتصار أكتوبر المجيد.

* ثالثاً: إن مصر - كما يراها العرب واختلفوا حولها - هي أيقونة عربية إفريقية إسلامية بحر متوسطية شرق أوسطية، وهذه التعددية في أعمدة الهوية المصرية تجعلها ذات مذاق خاص، لها دور قائد في الحرب ورائد في السلام، وقد يقول قائل: إن كثيراً من العرب يفضلون مصر الأرض والشعب وطيبة الناس والتسامح الشامل الذي يحتويهم واحترام المصري لغير المصري، ولكن هذا كله لا يكفي، فلمصر سحر خاص لدى بعض العرب لأنها بلد لا يمكن أن تتخذ منه موقفاً وسطاً، فمصر بزحامها يمكن أن تعشقها، ويمكن في الوقت ذاته أن تبتعد عنها.

*رابعاً: يدخل العرب إلى مصر كسائحين تشدهم مصر أرضاً وشعباً ومعيشة، وقد لا يتحمسون للمزارات الفرعونية، ولكنهم يقبلون على مساجدها، وقلاعها، ومقاصفها، ونواديها، وفي مصر تجد كل ما تريد.. جد ولهو، تديّن وتسلية، إنها مصر التي أحبها العرب عبر التاريخ ولم يبتعدوا عنها برغم سموم الدعايات المضادة، ومحاولات الإساءة إليها، وتحطيم صورتها المشرقة أمام أشقائها ليشعروا تجاهها بالكراهية، أو التحفظ، أو الغيرة، ولكنها تظل في النهاية مصر مركز الاستقطاب العربي، ومحور العلاقة التاريخية، والحضارية، والإنسانية، التي لا تنتهي.

* خامساً: إن مصر تمثل نموذج حضارة النهر مثلما هو العراق وغيرهما من حضارات المدن القديمة التي استقبلت الإسلام بحفاوة، وهو قادم من الجزيرة العربية، ببداوتها، ونقائها، فاستفادت منه وأضافت إليه، إنها مصر الأزهر الشريف، ومصر الكنيسة القبطية، ومصر الجامعات والمؤسسات، والنقابات، والأحزاب التي يتسع صدرها لكل قادم إليها، أو مقبل عليها، إنها هي التي احتضنت (الشوام) من أشقائها العرب ليضعوا الأسس التاريخية للصحافة، والأدب، والشعر، والمسرح، والسينما، والموسيقى، سبيكة غالية تبقى وديعة لدى الكنانة، وقد يقول قائل: إن تفاوت الثروة وظهور اقتصادات (الريع النفطي) قد قلبت الموازين ودفعت بدول الثراء العربي، خصوصاً بين دول الخليج، إلى مركز الصدارة، وهذا صحيح، ولكنه لا يعني إطلاقاً تراجع دور مصر، أو مكانتها، فمصر كانت، ولا تزال هي (رأس الحربة) مهما انتقدها الحاسدون، ومهما ترددت حولها أراجيف الكاذبين. حتى دول النفط العربي سوف تظل تنظر إليها باعتبارها المنار الذي يضم أكبر حشد من الموارد البشرية الهائلة، أما دول المغرب العربي فهي تنظر إليها باعتبارها الدولة الأكبر في جنوب البحر المتوسط وسط شقيقاتها من دول الشمال العربي الإفريقي، إنها درة العقد.

هذه ليست ملاحظات ولكنها رسالة إلى الأشقاء لعلهم يدركون أن مصر في محنتها ما زالت واقفة كالأشجار اليانعة، وباسقة كالنخيل المثمرة، ولن تسقط أبداً، ولن تركع أبداً، ولن يخفت صوتها ما دامت فيها عروبتها، وإسلامها، وإفريقيتها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"