مصير «البريكست» بعد استقالة ماي

05:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

بإعلانها عن استقالتها، في 24 مايو/أيار الماضي، تكون تيريزا ماي رابع رئيس وزراء من الحزب المحافظ يسقط؛ بسبب أوروبا في أقل من ثلاثين عاماً، ما يشي بحجم الانقسامات الأيديولوجية التي تعصف ب«التوريز» حول العلاقة مع أوروبا؛ رغم أنهم دعموا دخول بلادهم في «المجموعة الاقتصادية الأوروبية» في عام 1973 والذي كان يرفضه العماليون وقتها.
معارضة مرغريت تاتشر للعملة الموحدة (اليورو)، وانتقاداتها الحادة لأوروبا «التي لا ينبغي أن تكون أكثر من سوق مشترك واسع»، بحسب قولها، دفعت نواب حزبها من المؤيدين لأوروبا الموحدة إلى الضغط عليها وإرغامها على الاستقالة في عام 1990. ثم كان على خليفتها جون ميجور مواجهة المناهضين للاتحاد الأوروبي في حزبه، الأمر الذي أضعفه واضطره للاستقالة من زعامة الحزب قبل أن يهزمه العمالي توني بلير في الانتخابات التشريعية في عام 1997.
أما ديفيد كاميرون فإزاء الانتقادات الحادة التي تعرض لها على خلفية تنامي الهجرة، ورفض المعارضين للاندماج الأوروبي، قرر الدعوة إلى استفتاء شعبي على خروج بريطانيا (بريكست) من الاتحاد الأوروبي أو بقائها فيه. وفي 23 يونيو/حزيران 2016 جاءت نتيجة الاستفتاء لمصلحة الخروج، مما اضطر كاميرون إلى الاستقالة كونه كان مؤيداً للبقاء، تاركاً مهمة تنظيم الخروج لتيريزا ماي، التي انتخبها الحزب خليفة له. هذه الأخيرة خاضت مفاوضات صعبة دامت ثلاث سنوات طويلة مع بروكسل؛ بحثاً عن اتفاق ينظم «الطلاق» وما بعده؛ لكن هذا الاتفاق لم يحظ بموافقة البرلمان المنقسم على نفسه على الرغم من كل المحاولات التي بذلتها رئيسة الوزراء، التي وقعت بين سندان المؤيدين لبريكست (سوفت) ومطرقة المطالبين ببريكست (هارد).
لقد ارتكبت ماي أخطاء تكتيكية أوصلتها في النهاية إلى طريق مسدود؛ رغم أنها «فعلت ما بوسعها وحاولت بكل قواها أن تنجز البريكست» كما أعلنت في بيان استقالتها. فهي ما كادت تصل إلى «10 داوننغ ستريت» حتى حددت للبريكست خطوطاً حمر لا يمكن تجاوزها؛ ( الخروج من السوق المشترك ومن الاتحاد الجمركي)؛ وذلك كإطار للمفاوضات المقبلة مع بروكسل؛ لكن مع الوقت أخذت بالتراجع، وراحت خطوطها الحمر تتساقط الواحدة تلو الآخر؛ وبسبب الصعوبات التي واجهتها في هذه المفاوضات، ولشعورها بضيق هامش المناورة الذي تملكه دعت في عام 2017 إلى انتخابات مسبقة، كان هدفها الاستحواذ على أغلبية تقويها وتعطيها شرعية، خاصة بعد أن وصلت إلى الزعامة؛ بفضل استقالة كاميرون؛ لكن نتائج هذه الانتخابات أضعفت ماي بدل أن تقويها فإذا بهامش مناورتها يضيق بدل أن يتسع. كذلك لم تتبن ماي مقاربة مرنة عبر التواصل مع المعارضين، لاسيما الحزب العمالي. فقط في النهاية اضطرت للتفاوض مع جيريمي كوربين زعيم العماليين؛ بحثاً عن دعمهم لاتفاقها مع الاتحاد الأوروبي. فحزبها، الذي شهد ثلاثين استقالة متتالية لوزراء تعاقبوا على الحكومة، ما انفك يخذلها في كل مرة تتوجه إليه لدعم اتفاقها مع بروكسل؛ لكن محاولة «الفرصة الأخيرة» مع كوربين كان نصيبها، هي الأخرى، الفشل والذي أتى كإشارة جديدة إلى ضرورة استقالة ماي المتمسكة بالسلطة، والتي اقتنعت بأن مشروعها الذي أخفق في الاستحواذ على موافقة البرلمان ثلاث مرات متتالية لا حظ له البتة في النجاح. وفي النهاية نجحت لجنة 1922، التي تجمع النواب المحافظين غير الأعضاء في الحكومة والتي تعمل منذ أسابيع عدة على إجبار ماي على الاستقالة.
تلقت ماي الكثير من المدائح بعد استقالتها، لاسيما من المرشحين لخلافتها والذين يربو عددهم على العشرين؛ أبرزهم وزير الخارجية السابق المستقيل بوريس جونسون. ومن هنا إلى العشرين من يوليو/تموز المقبل، سيكون على الحزب المحافظ اختيار خليفة لماي يقع على كاهله تنفيذ المهمة الصعبة.
هذا الأخير لن يتبنى مشروع ماي؛ كونه فشل في إقناع البرلمان؛ لكن الاتحاد الأوروبي أعلن بأن استقالة ماي لا تغير شيئاً في مفاوضات البريكست، والتي أكد رئيس الوزراء الهولندي مارك روتي بأنها لن تستأنف من جديد؛ وبذلك فليس من المتوقع أن يحصل أي تغير جذري قبل أكتوبر/تشرين الأول المقبل الموعد النهائي للبريكست؛ بعد تأجيله من 29 مارس/آذار الماضي.
وبما أن خليفة ماي سيكون من «البريكستيين» فإن (الخروج من دون اتفاق) الذي تخشاه الأوساط الاقتصادية بات مرجحاً، وهو يعني خروجاً من الاتحاد دون فترة انتقالية فتصبح العلاقات (البريطانية-الأوروبية) خاضعة لقواعد المنظمة العالمية للتجارة؛ ذلك أن الحكومة البريطانية المقبلة ستكون أمام الخيار التالي: إما الخروج من دون اتفاق مع المفاعيل الاقتصادية السلبية التي يحذر منها كل المحللين، وإما عدم الخروج أي إلغاء البريكست، والعودة عن تطبيق المادة 50 من معاهدة لشبونة، وهذا يعد منافياً لأبسط قواعد الديمقراطية. أما الدعوة إلى استفتاء جديد فدونها الخشية من أن تأتي نتيجته مشابهة للاستفتاء الأول، بدليل حلول حزب نايجل فاراج «البريكستي» في المرتبة الأولى في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، ما يعني عودة إلى المربع الأول.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"