مقاومة مدنية مشروعة تستحق التبجيل

05:26 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

تمثل مسيرات العودة التي جرى تنظيمها ابتداء من يوم الجمعة الماضية 30 مارس، أحد أرقى أشكال الكفاح الجماهيري المنظم الذي يجمع بين ما هو سلمي وما هو رمزي، وهو ما يفسر الهستيريا التي أصابت حكومة الاحتلال، التي لم تجد ذريعة تتذرع بها سوى محاولة شيطنة هذه المسيرات، والتي تسير مثلها العشرات من المسيرات في دول الغرب لأسباب مختلفة، وتحظى بالاحترام وتجري حراسة المشاركين فيها.
وقد أكدت الهيئة العليا للمسيرات على الطابع السلمي التام لهذه التحركات، وهو ما كان المحتلون يدركونه ويتيقنون منه، مما نزع من بين أيديهم الفرصة لأي زعم أو ادعاء يبررون فيه عملية التجييش التي واجهوا بها المسيرات، وحيث شهد قطاع غزة الأضخم منها بمشاركة عامة شملت جميع الشرائح والأعمار. ومع ذلك لم يتوان المحتلون عن نشر أعداد من الجنود في وضعية انبطاح قتالي مع تصويب أسلحتهم نحو المشاركين المدنيين، فيما عمدت طائرات عسكرية لقذف قنابل غاز فوق المسيرة، بينما استهدف قناصو جيش الاحتلال المشاركين مما أدى لسقوط 16 شهيداً ومئات المصابين.
نظمت المسيرات في يوم الأرض الذي يصادف الثلاثين من آذار/ مارس كل عام، وترجع التسمية إلى قيام سلطات الاحتلال بقمع مسيرة محتجين في الجليل على سرقة أراضيهم في الجليل شمال فلسطين وفي العام التالي 1976. بدأ الاحتفال في كل المناطق التي تشمل فلسطين التاريخية والضفة الغربية وقطاع غزة بهذه المناسبة، وبالتشديد على أن حق أصحاب الأرض لا يسقط ولن يسقط.
يجدر بالذكر هنا أن قطاع غزة يضم بالإضافة إلى أبنائه، ثمانية مخيمات يقيم فيها مهجرون من أراضيهم منذ العام 1948، ويبلغ عدد هؤلاء حاليا نحو مليون ومئة ألف نسمة، وهؤلاء لاجئون في وطنهم، وقد شاركوا في مسيرة العودة لتذكير الاحتلال بأن ارتباطهم بوطنهم ثابت ومتجدد، مهما طال الزمن. وترعى وكالة «الأونروا» شؤونهم، وهي إحدى هيئات الأمم المتحدة، ويسعى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لتصفية الوكالة، سعياً لإزالة أي اهتمام دولي بقضية اللاجئين المحرومين من العودة إلى وطنهم. وقد بدأت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب في مجاراة المسعى «الإسرائيلي» لتصفية وكالة غوت وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وذلك بوقف المساهمة الأمريكية في تمويلها، بينما تعجز السلطة الفلسطينية عن تأمين احتياجاتهم، هم وأعداد أخرى من اللاجئين في الضفة الغربية المحتلة. فيما يعاني قطاع غزة من ظروف اقتصادية خانقة، وذلك لكون القطاع منفصلاً جغرافياً عن الضفة الغربية بأراضٍ باتت جزءاً من «إسرائيل»، ولكون الحدود في نقطة رفح في حالة إغلاق شبه دائم، علماً أن هذه النقطة هي بوابة غزة الوحيدة نحو العالم الخارجي.
في مثل هذه الظروف، ومع الصعوبات المتزايدة أمام تجدد المقاومة المسلحة، ومع انسداد خيار المفاوضات، فقد توافقت الفصائل مع هيئات سياسية واجتماعية على تنظيم هذه المسيرات، من أجل إحياء قضية العودة وتفعيلها، الأمر الذي أثار حفيظة الاحتلال الذي يراهن على أن الخيارات السياسية أمام المجتمع الفلسطيني باتت مغلقة، ولهذا أبدى جيش الاحتلال قدراً من الهستيريا أمام هذا الشكل السلمي والرمزي للنضال الجماهيري والذي يتوافق مع معايير الاحتجاجات في سائر دول العالم.. علماً أن دولة الاحتلال نفسها تسمح لجماعات يهودية بتنظيم مثل هذه الاحتجاجات بين وقت وآخر بغير عوائق، لكن مسؤوليها يفقدون عقولهم وهم يعاينون تحرك الشعب الضحية مُطالباً ومُتمسكاً بحقه في العودة إلى أرض الآباء والأجداد، الأرض التي لا أرض لهم سواها، والذين يتوارثون التعلق بها مع حليب أمهاتهم.
ومن المنتظر أن تتواصل التحركات الاحتجاجية لنحو ستة أسابيع وحتى حلول يوم ذكرى النكبة في 15 مايو المقبل، وهو الموعد الذي اختاره البعض في عالمنا لإسدال الستار على قضية فلسطين بابتلاع الأراضي المحتلة منذ عام 1967 وأيقونتها ودرّتها القدس (علاوة على تلك التي احتلت عام 1948). والعبرة هي أن محاولات تصفية القضية بأية صفقة كانت، لا تؤدي سوى إلى تأجيج الصراع، وإشعال جذوته مجدداً، وأن الحل يكمن في ما توافقت عليه دول العالم من قرارات دولية واجبة التنفيذ بشأن القدس واللاجئين، وباعتبار هذه القرارات تمثل العدالة النسبية الوحيدة، أما الإمعان في مكافأة المعتدي وتجاهل الضحية، فلن يُفضي سوى إلى خلل فادح يستحيل التعايش معه أو القبول به.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"