ملاحظات حول السياسة الخارجية المصرية

04:25 صباحا
قراءة 4 دقائق

عندما سقط نظام الرئيس السابق مبارك تيقن كل المعنيين بالسياسة الخارجية المصرية أنها سوف تشهد تحولاً كبيرًا على المستويين الإقليمي والدولي، ولعل البعض يتذكر أنني كنت أشير علناً في كل المناسبات السياسية والدبلوماسية والإعلامية في العصر السابق إلى أن الدور الإقليمي لمصر يتراجع، حتى أن صحيفة #187;البديل#171; التي كان يترأس تحريرها الراحل د .محمد السيد سعيد قد أخذت تصريحاً لي عنواناً لها قلت فيه (إن الرئيس مبارك لا يهتم بالدور الإقليمي لمصر) وبعدها بساعات انهالت عليَّ مكالمات تحمل نذر التهديد والوعيد من كبار مسؤولي الرئاسة تعبيراً عن غضب الرئيس السابق . وكان الذي لفت نظري إلى ما جاء في الصحيفة هو الصديق الدبلوماسي المتميز نبيل فهمي سفير مصر الأسبق في واشنطن . أقول ذلك كله بمناسبة التطورات الأخيرة في السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة يناير ،2011 ومن دون لجاجة أو استرسال فإنني ألفت النظر إلى الملاحظات التالية:

* أولاً: إن نظرية الدور الإقليمي تتجسد - بمالها وما عليها - في سياسة مصر الخارجية عبر العصور، حيث مارست الدولة المصرية دوراً حيوياً له امتداده في مجالها الجغرافي ووفقاً لمعطيات تاريخية جعلت المكان والزمان يحددان دوراً ريادياً لبلد مركزي ومحوري في عالمه العربي وموقعه الإفريقي وشخصيته البحر متوسطية واشتباكاته الشرق الأوسطية . ولعل الامتداد التوسعي لمحمد علي والانتشار القومي لجمال عبد الناصر هما أقوى تعبير عن طبيعة الدور المصري وآثاره في المنطقة، ونلفت النظر إلى أن أعداء نظرية الدور يقيمون رأيهم بحساب التكاليف التي تتحملها الدولة في الزمن القصير دون النظر لعوائده على المدى الطويل .

* ثانياً: لقد توصل خبراء السياسة الخارجية المصرية إلى معادلة ثابتة مؤداها أن مصر تبيع سياسة وتشتري اقتصاداً لأنها توظف الدور الإقليمي والوزن الدولي في خدمة قضايا الداخل ومشكلاته لبلد يعاني من انفجار سكاني لا يتوقف وإدارة مترهلة في دولة عجوز لم تتمكن حتى الآن من كسر حاجز الفقر والقفز نحو المستقبل الواعد، فعندما يذهب رئيس مصر - دون تحديد - في رحلات خارجية فإنه يقوم باستثمار الدور المصري وأبعاده المتداخلة في خدمة مطالب شعبه وأهدافه الآنية على اعتبار أن السياسة الخارجية هي امتداد طبيعي للسياسة الداخلية .

* ثالثاً: إن الصراع العربي - #187;الإسرائيلي#171; قد فرض على الدولة المصرية توجهات محددة ذات تكاليف باهظة وضعت على صانع السياسة الخارجية قيوداً في زمن الحرب والسلام معاً حيث مثلت المشكلة الفلسطينية هاجساً دائماً لمصر على امتداد العقود السبعة الأخيرة، وحددت بدرجة كبيرة توجهات السياسة المصرية إقليمياً ودولياً، بل إننا نزعم أن علاقات القاهرة - واشنطن عرفت في العقود الأخيرة أيضاً طرفاً ثالثاً يلعب بين طرفي المعادلة هو #187;الدولة العبرية#171; بسياساتها العدوانية التوسعية الاستفزازية واضعين في الاعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية تلخص مصالحها في الشرق الأوسط من خلال هدفين أساسيين، هما حماية منابع #187;النفط#171; وضمان أمن #187;إسرائيل#171; .

* رابعاً: إن مصر - عبر تاريخها الطويل - تنظر شرقاً نحو غرب آسيا وتتجاوز ذلك إلى القوى الآسيوية الكبرى خصوصاً في الهند والصين واليابان ويشعر المصريون أحياناً بانتمائهم الشرقي عندما يكتشفون أن التحديث لا يعني بالضرورة التغريب دائماً #187;Modernization is not always westernization#171;، فالتجارب الآسيوية الكبرى حافلة بالخبرات التي يمكن أن تفيد منها مصر بحكم التشابه في بعض الخصائص مع ذات التحديات التي فرضتها ظروف متشابهة .

* خامساً : إن أغلى سلعة صدرتها مصر عبر القرنين التاسع عشر والعشرين كانت السلعة الثقافية - صحيفة وكتاباً وقصيدة ومسرحية وفيلماً - حتى أصبح المزاج المصري مقبولاً عربياً ومقدراً إسلامياً ومطروحاً إفريقياً حتى تحدد الدور المصري بأطروحات عصرية مثل التحرير والتنوير وتصدير التعليم، فكان المدرس المصري إلى جانب زميله الطبيب ورفيقه المهندس هم سفراء الدولة الحقيقيين إلى شعوب المنطقة، يحملون الشعلة ويشاركون في البناء، وحتى دعم مصر للثورة اليمنية عسكرياً عند اندلاعها عام 1962 كان نموذجاً قومياً مكرراً من حملة #187;بونابرت#171; الفرنسية على مصر في مطلع القرن التاسع عشر، فالتاريخ مغرم بالمحاكاة ولا يمل التكرار .

* سادساً: إن الأبعاد الإقليمية للسياسة الخارجية المصرية لابد أن تضع في اعتبارها دول الجوار الجغرافي، خصوصاً تركيا وإيران ودول القرن الإفريقي الرابضة على مداخل البحر الأحمر، خصوصاً أن الأخيرة لا تبعد كثيراً عن حاسبات جديدة تدور حول ملف مياه النيل أكثر الملفات حيوية وإثارة أمام السياسة الخارجية المصرية، ومصر لا تبتعد عن القوى الإقليمية بما فيها #187;إسرائيل#171; ذاتها لأن العلاقات الدبلوماسية القائمة - حتى وإن لم تكن طبيعية تماماً - لا تعني الرضا الكامل أو العشق السياسي ولكنها تعبير عن شبكة المصالح المتفقة أو المتضاربة، فالعلاقات الدولية لا تعرف الحب والكراهية ولكنها تعرف الهيبة والاحترام المتبادلين .

* سابعاً: إن السياسة الخارجية المصرية - حالياً - أشد ما تكون حاجة للخروج من شرنقة الماضي إلى توجهات غير تقليدية يستيقظ معها الدور المصري وتتحرك بها #187;القوى الناعمة#171; للدولة العميقة والعريقة حيث كانت دائماً هي أداتها في التحرك والانتشار عربياً وإفريقياً وإسلامياً . إن مصر بحاجة إلى توظيف كل أبعاد هويتها الثرية من أجل استعادة هيبة دورها وتشابك اهتماماتها في ظل رؤية شاملة ونظرة متجددة تضع مصر من جديد على خريطة الاهتمام الدولي والإقليمي . إنها ملاحظات مبدئية حول السياسة الخارجية المصرية، ولكن للحديث بقية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"