من يحمي المدنيين الفلسطينيين؟

02:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي
يصف رئيس السلطة الفلسطينية قيام أجهزة أمن السلطة بإحباط عمليات ضد الاحتلال «الإسرائيلي» بأنها «واجب نقوم به على أكمل وجه». رئيس السلطة محمود عباس عقد مؤتمراً صحفياً قبل أيام في رام الله خصصه للحديث عن إحباط جهاز المخابرات الفلسطيني لأكثر من 200 عملية مفترضة ضد الاحتلال، وقال في هذا الصدد إن الجهاز يتلقى أوامره من رئاسة السلطة، وإن الذين شنّوا حملة على الجهاز «كانوا يقصدونني». وبرر عباس إفشال تلك العمليات بأنه من قبيل رفض الانجرار إلى معركة «لا أريدها».
موقف عباس بشأن القيام بعمليات عسكرية ضد العدو ليس جديداً، وسبق أن أعلنه في كل مناسبة ضد ما كان يسميه عسكرة الانتفاضة، ولعل الجديد في الأمر هو كثافة العمليات المزمعة والمفترضة وارتفاع عددها والتي تم إحباطها في الآونة الأخيرة. ومغزى ذلك أن الجهاز المولج بهذه المتابعة يكاد يكون متفرغاً لإحباط هذه النشاطات. وفي وقت يبدو فيه أن هناك أطرافاً أرادت مواكبة ما سمي بانتفاضة السكاكين( وهي انتفاضة شعبية جسورة ) وتصعيدها باتجاه مواجهة شبه عسكرية. ولا شك أن أكلاف هذه المواجهة وتبعاتها كبيرة وجسيمة لو حدثت، وخاصة في ظل ظروف ملتهبة في المنطقة، لن يتم فيها الالتفات إلى حريق إضافي، وسوف يجد العدو فيها فرصة سانحة لإلحاق أكبر أذى ممكن بالمدنيين والمرافق المدنية.
بعيداً عن هذه الاعتبارات الأمنية الصرفة، فإن رئاسة السلطة لا تتطرق إلى الجوانب السياسية لمثل هذا التوجه. فقد سبق أن أوصى المجلس المركزي وهو هيئة قيادية وسيطة قبل نحو عام، بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، وقد عمد أكثر من مسؤول فلسطيني إلى «التهديد» بوقف التنسيق، لكن التنسيق استمر في أجواء من التهديدات بنزع أية تسهيلات أو امتيازات عن أركان السلطة في حال توقف التنسيق الأمني. الآن فإن إحباط عمليات مزمعة يشكل «ارتقاء» بالتنسيق الأمني ومضاعفة له، ولم يعد الأمر يقتصر على التمسك به. سلوك هذه السياسة يوجه رسائل خاطئة وضارة إلى أكثر من جهة. الجهة الأولى هي الشعب الرازح تحت الاحتلال وفحوى الرسالة التي يتلقاها إن السلطة معنية بالدرجة الأولى بحماية الطرف الآخر وليس بحماية الشعب، والدليل أن عمليات القتل بدم بارد تتواصل في شوارع الضفة الغربية. ويذهب ضحيتها العشرات من المدنيين الفلسطينيين من دون أن تبالي سلطات الاحتلال بأي رد فعل من السلطة في رام الله على سلوكها الدموي. وبهذا فإن موقف السلطة التي عير عنه الرئيس عباس لا يؤدي إلى شيء سوى المزيد من التباعد عن الجمهور، واتساع رقعة الشكوك. فإذا كانت سلطات الاحتلال تحمي «الإسرائيليين» والسلطة بدورها تسعى لحماية «الإسرائيليين»، فمن ذا الذي يحمي الرازحين تحت الاحتلال؟
يقول عباس إنه بموقفه هذا الذي يحبط فيه عمليات مفترضة ضد «إسرائيليين»، فإنه يحمي الجمهور الفلسطيني. لكن هذا الجمهور لا يلمس أية حماية في هذا الاتجاه. فالعدو يقوم بالتنكيل بالمدنيين الذين يخرجون في احتجاجات سلمية. على مرأى ومسمع من السلطة. وكان المنطق يقضي وما زال بأنه ما دام العدو يستهدف المدنيين ويلجأ للقمع الدموي للاحتجاجات السلمية، فليتحمل إذاً وزر هذا التصعيد وليواجه عمليات مسلحة من فصائل ومن ناشطين ومن دون أي تدخل من السلطة لا في السماح بهذه الأنشطة ولا في قمعها! وليتفرغ كل طرف لحماية جمهوره!.. علما بأن الواجب «المقدس» للسلطة هو حماية شعبها، وليس حماية أي طرف آخر وخاصة المحتل المعتدي.

بدلا من التمسك بخطاب سياسي وطني جامع مثل هذا، فإن السلطة تتصرف بمنطق براغماتي هزيل، لا وظيفة له ولا غاية في المدى المنظور سوى حماية السلطة لذاتها ولأجهزتها، مع الافتراق عن تطلعات الجمهور وطموحاته الوطنية.، واتباع سياسة تمشية الأمور يوما بيوم، والاعتصام بالانتظار، من دون أفق سياسي أو وطني واضح. وقد فاقم من ذلك غياب مجلس نيابي منتخب بعد أن نجح العدو في حل المجلس المنتخب باعتقال العديد من أعضائه، وبعد فشل سلطتي غزة ورام الله في تنظيم انتخابات جديدة. ويصبح الوضع أكثر تعقيداً مع حرص حركة حماس على استتباب الأمن والهدوء على حدود قطاع غزة مع الجانب «الإسرائيلي»، بينما يتم السعي للقيام بنشاطات عسكرية وشبه مسلحة في الضفة الغربية. وهو ما يثير عاصفة من التساؤلات والشكوك وخاصة في أجواء الانقسام الذي لم يتوقف رغم تشكيل حكومة واحدة، لكن السلطة الأمنية والفعلية في قطاع غزة ما زالت لحركة حماس دون سواها، وهو ما ينعكس بالسلب على قضية معبر رفح بين غزة ومصر، حيث يصر الجانب المصري على عدم التعامل مع حركة حماس على الجانب الآخر من معبر رفح، بينما يقضي اتفاق المصالحة الوطنية الذي نفذ جزئياً بألا تبقى حماس على المعبر.. ولكنها ما زالت باقية.

هذا يدلل على أن أزمات الوضع الفلسطيني متداخلة ومركبة، فبينما يتحمل المحتل الجزء الأعظم من مسؤولية التوتر والاحتقان فإن السلطة في كل من رام والله وغزة منشغلة بفرض سطوتها الخاصة وحماية أجهزتها وامتيازاتها بأكثر من حماية الجمهور أو الانخراط في مقارعة سياسية حازمة للاحتلال، وهو ما يفسر في النهاية ضعف زخم المواجهة مع العدو، والشحوب الذي تبدو عليه القضية الوطنية في هذه المرحلة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"