مهمة عاجلة تنتظر المثقفين العرب

01:23 صباحا
قراءة 4 دقائق


محمود الريماوي

تزداد يوماً عن يوم بل ساعة تلو ساعة الحاجة إلى بلورة خطاب عربي ووطني ضد آفة الطائفية. وليس من المبالغة القول إن هذه المسألة تكاد تتصدر الأولويات السياسية والثقافية في هذه الآونة، وتشكل التحدي الرئيسي أمام النخب والقوى المتنورة والديمقراطية، وذلك نظراً للمخاطر الداهمة التي يحملها التحشد الطائفي على سلامة المجتمعات ومنعة الأوطان.
إلى عقود طويلة خلت كان الظن أن ثمة بلداً عربياً واحداً محكوماً بالمعادلات الطائفية هو لبنان،
و بقية البلدان والمجتمعات محصنة ضد انتشار هذا الوباء. إلى أن كذّبت الوقائع والمجريات هذا الاعتقاد، فلم تلبث المسألة الطائفية أن انتقلت إلى العراق بعد الاجتياح الأمريكي لهذا البلد منذ أزيد من عشر سنوات، ثم انتقلت إلى دول أخرى، وارتدّت إلى لبنان الذي استيقظ فيه الوحش الطائفي مجدداً.
ويزداد الأمر تعقيداً وخطورة حين ينكبّ البعض على تسويغ الطائفية تحت ادعاء الحاجة إلى الدفاع عن الذات الطائفية، وبافتراض أن مظالم تقع على مكون اجتماعي معين في آونة ما وفي مكان ما، فإن الرد على الطائفية لا يكون بمثلها، بل بخطاب وطني يرمي إلى تحقيق العدالة للجميع، تحت راية الحق الإنساني والحقوقي والوطني، وليس الانغماس في ما يتم رمي الآخرين به.
ومن المؤسف أن التسونامي الطائفي آخذ في طريقه كثيرين من سياسيين ومثقفين وصانعي رأي عام، استسهلوا ركوب هذه الموجة، بأمل تحقيق شعبية فورية في بيئاتهم، بدلاً من تكبد طريق شاق يقضي بإرساء العدالة والمساواة للجميع، ورفع قيم المواطنة الصالحة والجامعة. وفي هذا الصدد
ما زالت المهمة الجليلة في مكافحة الطائفية ملقاة على عاتق المثقفين والسياسيين والأكاديميين المتنورين وسواهم من نخبة المجتمع. وأقصر طريق وأوضحها للانخراط الفعلي في مكافحة هذه الظاهرة، هو في التصدي للتطرف الطائفي في البيئة الاجتماعية اللصيقة بهؤلاء. فلا يكفي نقد التطرف في بيئة الآخرين حتى لو كان نقداً صائباً ومحقاً، فالأهم من ذلك هو نقد التطرف الطائفي في البيئة نفسها، أو الطائفة نفسها التي ينحدر منها المثقف، أو المحسوب عليها. ذلك أن الاكتفاء بنقد تطرف الآخرين يسهل لمن يشاء احتسابه جزءا من صراع طائفي مستتر أو معلن، فيما يتعذر إلصاق هذا التصنيف بمن يوجه سهام نقده الموضوعي للتطرف في بيئته هو.
بعبارة أوضح فإن النقد الذي يوجهه مثقف محسوب على السنّة بحكم الولادة يكون أعمق أثراً وأسلم في النتيجة حين يتجه الى مناوأة التطرف داخل «طائفته». بينما لو اكتفى هذا المثقف بنقد التطرف في البيئة الشيعية مثلاُ مهما كان نقده موضوعياً، فإن هذا التوجه الأخير قد يُحسب على أنه ضرب من ضروب التحشد ضد الطائفة الأخرى. كذلك الحال لدى المثقف المحسوب على الطائفة الشيعية بحُكم الولادة، فإن نقده للتطرف في بيئته يكون أكثر فائدة بما لا يقاس، مما لو اكتفى بنقد التطرف لدى الطائفة الأخرى حتى لو كان نقده «صائباً وفي محلّه».
والغاية من طرح هذه الفكرة هي التصدي للاستقطاب الطائفي، ودعوة المثقفين للانحياز إلى خطاب سياسي وطني جامع للمواطنين، يخترق التكتلات الطائفية ويتجاوزها، وذلك بالبدء بنقد تطرف الذات الطائفية، والانتقال من ذلك إلى نقد التطرف في عمومه، أياً كان منشأه ومصدره وذرائعه وراياته. وليست تلك بمهمة عسيرة أو شائكة كما قد يتوهم البعض، فقد كان المثقفون العرب على مدى عقود وفي غالبيتهم الغالبة على هذه السويّة من التحرر العقلي، والولاء للوطن والإيمان التام بفكرة العدالة والمساواة، وتصنيف الشركاء في الوطن على أساس التيارات والخلافات الفكرية والسياسية المشروعة، مع طرح الهويات الفرعية والأولى جانباً، وعدم إدراجها كمعيار لدى تصنيف الآخرين، أو تقييمهم كأفراد وجماعات.
إننا نعيش كعرب في حمأة تطاحن داخلي يهدد حاضرنا ومستقبلنا، والاستسلام لهذه الموجة تحت زعم أن الناس قد انقسمت إلى ملل ونِحَل وفرق وطوائف وقُضي الأمر!، يحرم المجتمعات من المصلحين والنهضويين، فهذه الظاهرة غريبة على مجتمعاتنا ولا ينقصها النشاز والشذوذ، فقد كانت الطوائف قائمة على الدوام في النسيج الاجتماعي، لكن الطائفية لم يكن لها وجود يذكر داخل الدين الواحد، بل كان التآخي قائماً مع اتباع الدين السماوي الآخر على قاعدة الدين لله والوطن للجميع.
ومن حسن الطالع والتدبير أن هذا التآخي قد صمد بدرجة كبيرة على نطاق المجتمع الواسع ويستحق صيانته باستمرار، لكن جرثومة الانقسام ضربت أبناء الدين الواحد. ويريد البعض الآن ترسيخ الاعتقاد الخبيث بأن هذا الانقسام هو بمثابة قدر لا يُرَد، ولا قِبل لأحد بوضع حد له. وذلك تدليس في تدليس يُراد به أصحابه الاستثمار السياسي في هذه الآفة. فقد مضت قرون على الوئام بين أبناء الدين الواحد. ونشأت أجيال تلو أجيال في عهود الاستعمار وما بعد الاستعمار على هذا الوئام، واستدخلته في ثقافتها وتقاليدها وفي سلوكها وأنماط اجتماعها وحياتها، وأورثته من دون انقطاع للأجيال اللاحقة حتى طبعت بطابعه المجتمعات والبلدان.
لقد كانت الثقافة القومية تحذر على الدوام من سعي أعدائنا إلى تقسيم مجتمعاتنا على أسس غير وطنية منها الأسس الطائفية. وانزلاقنا الآن إلى هذا المنحدر السحيق، هو بمثابة هدية سخية لأعدائنا، وهدية مسمومة لمجتمعاتنا وأوطاننا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"