نابليون والمحروسة

على الوتر
02:19 صباحا
قراءة 4 دقائق

مواصفات الجودة في مسلسل نابليون والمحروسة تتوافر في جميع عناصره الإبداعية والفنية، ابتداء من النص ومروراً بالديكور والإكسسوارات والملابس والتمثيل والموسيقا والتصوير والإخراج، وكلها تضافرت لتعزز عملاً متكاملاً .

مؤلفة المسلسل عزة شلبي حرصت على بناء شخصيات درامية (حقيقية وخيالية) تمثل أطياف المجتمع المصري كافة في نهاية القرن 18 من سكان المدن والقرى، والمصريين والمماليك والأرمن، والمسلمين والمسيحيين، والأغنياء والفقراء، والمتعلمين والأميين، والعلماء والغوغاء، والنساء والرجال، والأطفال والكبار، وكل هؤلاء في مواجهة المحتل الفرنسي بجنرالاته وضباطه وجنوده ونسائه، وأيضاً النساء المصريات الحالمات والساعيات إلى حياة الفرنسيس، واتخذت من صفحات التاريخ وقائع وأحداثاً، ومنحتها مشاعر وأحاسيس من خلال شخصيات تتألم وتتأوه وتثور وتغضب وتنتقم وتنزف دماً وتموت دفاعاً عن الوطن .

الشخصيات رسمتها عزة شلبي بوعي بحيث أصبح لكل شخصية تتحرك داخل المشهد ملامح ومعالم يتعرف إليها من خلالها المشاهد، لنجد أننا أمام عدد كبير جداً من الشخصيات التي لم تطغ أي منها على الأخريات، ولا توجد شخصية تستحوذ والباقي يدور في فلكها، مثلما يحدث في الكثير من الأعمال، وتعانيه العديد من المسلسلات التي تعرض حالياً . ولأن الشخصيات تم بناؤها بهذه الحرفية، فليس هناك بطل للمسلسل، وإن كان اسم ليلى علوي يتصدر تتراته، ولكنها تظهر في مشاهد محدودة، بل إن دورها أقل مساحة من أدوار آخرين مثل شريف سلامة وفرح يوسف، وهو أمر يحسب كثيراً لنجمة كبيرة لعبت بطولات مطلقة في السينما والتلفزيون، وبعد أن شبعت شهرة ونجاحاً لم تعد تشغلها مساحة الدور بقدر ما يشغلها مدى تأثيره وفاعليته وقيمة العمل بشكل عام والقضية التي يطرحها وأهميتها للناس .

ليلى علوي تجسد في المسلسل شخصية نفيسة البيضا التي كانت تلقب بأم المماليك وكانت زوجة لمراد بك، وكانت صاحبة علاقة طيبة مع المصريين، تتبنى مشكلاتهم وتسعى لحلها، وتشاركهم أفراحهم وأحزانهم، وعندما جاء نابليون، هرب زوجها إلى الصعيد، ولأن ثقافتها فرنسية فقد أوهمت الفرنسيين بترحيبها بهم، واستقبلتهم في بيتها، وهي في الوقت ذاته تقاوم احتلالهم لمصر، وتنقل أخبارهم لزوجها، وتدعم المقاومة، وهي شخصية تاريخية وإن كانت كتب التاريخ لم تنصفها فقد أنصفها هذا المسلسل، وأنصفتها أيضاً ليلى علوي وأدّتها بحرفية وفهم شديد لتناقضاتها وذكائها ووعيها وحرصها على المصريين .

في المسلسل تتحدث ليلى علوي العامية المصرية، كما تتحدث الفرنسية بطلاقة، والغريب أنها تعلمتها وأتقنتها لأجل أن تتقن الدور، وتنال من خلاله شهادة جماهيرية جديدة على تميزها ووعيها بقيمة الفن ودوره .

أما شريف سلامة فقد جسد أيضاً بتميز شخصية علي الحداد، الشاب الوطني الثائر المتمرد والعاشق في الوقت ذاته، وجسدت فرح يوسف شخصية رقية الفتاة التي يقتل الفرنسيون أباها ويدفعون أمها وإخوتها للانتحار في النيل، ويخطف المماليك ولديها، وتتفوق في أدائها كمأساة إنسانية متحركة ورغم ذلك لم تفقد الأمل .

سوسن بدر رمز التميز في دراما هذا العام، وفي نابليون والمحروسة تفوقت على نفسها من خلال أدائها لشخصية خديجة الزوجة والأم والمرأة التي تقود تظاهرات النساء، وتعيش بهموم الوطن والأبناء والجيران والأهل جميعاً، وهي المعادل المصري لشخصية أم المماليك .

وبالرغم من أن الفنان سامح الصريطي انتهى دوره في الثلث الأول من المسلسل، إلا أنه جسّد شخصية الأب الذي فقد نظره نتيجة إصابته بالرمد، والذي قتله الفرنسيون، بتميز، ليظل حاضراً في مشاعر المشاهدين غائباً عن الشاشة بعد وفاته .

المخرج شوقي الماجري عنوان التميز في الدراما العربية الذي قدم العام قبل الماضي مسلسل هدوء نسبي كأول وآخر دراما عربية عن العراق أثناء الاحتلال الأمريكي، يدهشنا في مسلسل نابليون والمحروسة ليقدم عملاً يعيدنا خلاله إلى التاريخ لنعيش أحداثه ونتعايش مع شخصياته ونتجاوز حدود المشاهدة إلى المعايشة، وهذا هو قمة ما يمكن أن يحققه مخرج . وقد استخدم الماجري أدواته من ديكور وإضاءة وملابس ليعيدنا إلى الوراء 214 عاماً، لنعيش في المحروسة، بعد أن نجح في أن يكسو الشاشة بلون الماضي، ويحيي صفحات من التاريخ أمام أجيال لم تعشها ولكن ينبغي أن تعرف كل ما دار فيها وألا تنساها مهما باعدت بيننا وبينها السنوات .

الموهوب شوقي الماجري حرص أيضاً على أن يقدم من خلال نابليون والمحروسة أول مسلسل عربي ناطق بثلاث لغات، وهي العربية لغة أهل البلد، والفرنسية لغة المحتلين، والتركية لغة الخليفة العثماني وحاشيته، كما استعان لأداء الشخصيات الفرنسية بفنانين فرنسيين على رأسهم غريغوار كولين في شخصية بونابرت الذي كان أداؤه بارداً في أجواء مشتعلة، واستعان أيضاً بفنانين أتراك لأداء أدوار العثمانيين، وبذلك حقق حالة من المصداقية لم تتوافر لأي مسلسل من قبل، ولم يرد أن يلوي عنق الحقيقة بلغة عربية مكسرة للأتراك والفرنسيين .

المسلسل مكتوب بوعي ومهارة، وتم تنفيذه وتنفيذ معاركه بحرفية وخبرة، ليجد المشاهد نفسه يعيش التاريخ ويحس بأنه أحد أطرافه وبأن هذه الأحداث تعنيه وتعني أيضاً أبناءه وأحفاده، وإن كانت قد حدثت لأجداده .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"