نحو حماية دولية للقدس

02:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي
يصعب تناول وقائع استباحة المسجد الأقصى من طرف عتاة الصهاينة بعيداً عن الانفعال. إذ إنه يندر في عالمنا وزماننا أن يمنح أتباع دين لأنفسهم حق استباحة دار عبادة لأتباع دين آخر. لقد حدث مثل ذلك خلال محطات مظلمة من التاريخ كالحملة على المسلمين في إسبانيا قبل أكثر من خمسة قرون، أو كما جرى أثناء النزاعات العرقية والدينية في البلقان في تسعينات القرن العشرين، أو كما تفعل «داعش» الإرهابية في استهداف مقدسات غير المسلمين.
إن ما جرى ويجري في القدس العربية المحتلة يمثل شاهداً إضافياً على أن الحركة الصهيونية هي الشقيقة الروحية للعقائد العنصرية في الشرق والغرب، إذ تنهج نهجها في إنكار وجود الآخر وفي حقه في الحياة والكرامة، وتنشئ الأجيال تلو الأجيال على أفكارها السامة المريضة، وهؤلاء هم من يشكلون جيشها وقوى الأمن وقطعان المستوطنين فيها.
لا ريب أنها واقعة فاصلة من أيام العرب، فثاني مقدسات المسلمين وهو المسجد الأقصى يتعرض لاستباحة صفيقة من سلطات الاحتلال، حيث أطلق الاحتلال مستوطنيه وعتاة متطرفيه لعبور باحة الحرم ثم لاقتحام المسجد، في الوقت الذي حظر فيه على المسلمين الدخول إلى دار عبادة تخصهم، مشترطاً الدخول عبر بوابات إلكترونية وهو ما رفضه المقدسيون والمقدسيات بالمطلق، فليس لسلطة الاحتلال أي حق في السيطرة على مقدسات المسلمين والمسيحيين. ولم تكتف سلطات الاحتلال بذلك بل عمدت إلى العبث بالوثائق التاريخية داخل المسجد والاستيلاء عليها، وذلك جرياً على نهج اللصوصية الذي دأبت عليه، ومن المفارقات المثيرة للغثيان أن الصهاينة يعتبرون أعمال السرقة وعلى رأسها سرقة أرض الآخرين، عملاً وطنياً يحتفلون به بدون ذرة من الخجل.
ليس ذلك بغريب على الحركة الصهيونية التي قامت على اللصوصية والعنصرية، وواقع الحال أن بنيامين نتنياهو ذا الأصول البولندية لا يفعل شيئاً سوى السير على نهج أسلافه، في العداء المطلق لغير اليهود، وإنكار حقوق الشعب صاحب الأرض، واعتبار ممارسة العنصرية حقاً مكتسباً من حقوق دولة الاحتلال ومن مقتضيات العقيدة.
وكحال عصابات الشوارع في عالمنا التي لا تقيم وزناً لآراء الآخرين ومواقفهم، وتهزأ بالقوانين وتحتكم إلى القوة المجردة، كذلك فإن حكومة نتنياهو مضت في إجراءاتها الصفيقة رغم ذهول العالم واستنكاره متعدد المظاهر والنبرات، ولم تتوان عن اقتحام المستشفيات وحتى غرف العمليات الجراحية سعياً للانتقام من المنتفضين، فيما تعتبر القتل بدم بارد للمتظاهرين السلميين حقاً من حقوقها، وهو ما يشير مرة أخرى إلى أن دولة الاحتلال دولة مارقة معادية لحقوق الإنسان والشعوب، ومرتعاً للعنصرية للبغيضة، وتشكل خطراً داهماً على الأمن والاستقرار في منطقتنا.
من المهم في هذه الظروف الأليمة أن تحزم السلطة الفلسطينية أمرها بالتعاون والتنسيق مع الدول الشقيقة والصديقة من أجل مواجهة البلطجة الصهيونية بما تستحق من حزم، والخروج بدعوات لإنقاذ المدينة المقدسة من براثن المحتلين المسعورين، عبر فرض شكل من أشكال الحماية الدولية على المدينة، وبالذات قلب القدس القديمة التي تضم المقدسات الإسلامية والمسيحية، وعدم التراجع أمام عنجهية حكومة نتنياهو.
إن حق العرب والفلسطينيين في أماكنهم المقدسة تسنده كل المواثيق والقوانين والقرارات الدولية، وباستثناء دول هامشية تعد على أصابع اليد الواحدة، فإن أحداً في العالم لا يقبل الواقع الاحتلالي الشاذ في القدس، الذي طال العهد عليه والذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، مع انتشار قطعان المستوطنين الذين يعيثون فساداً ولا يراعون أية حرمة بما في ذلك حرمة البيوت.
لا يكفي أن يتمسك الفلسطينيون بالقدس العربية عاصمة لدولتهم المستقبلية، إذ يتعين أن لا يتوقفوا عن إدارة معركة سياسية ودبلوماسية وحقوقية وإعلامية نشطة، ضد التغول الصهيوني، ومع الضعف المتزايد في الدعم العربي والإسلامي لقضية القدس وبقية الأراضي العربية المحتلة، فإنه من الواجب وضع العالم أمام مسؤولياته. فقد جعل المتطرفون الصهاينة من مدينة السلام مدينة للحرب، وملأوا أجواءها وأحياءها بسموم الكراهية، والعنصرية إلى أن انتهى بهم الأمر إلى المساس الصفيق والاستعراضي بمقدسات غير اليهود، ما يندى له جبين الإنسانية، وما يدلل على أن حكومة نتنياهو لا تعدو أن تكون عصابة أشرار لا تتقن سوى الوحشية، مع أكبر قدر من الكذب والخداع والتدليس والهزء بعقول البشر. وأنه تبعاً لذلك يستحيل التفاوض مع هذه العصابة، أو أن يؤمل منها وقف التغول الاستيطاني والتوقف عن أعمال اللصوصية. والبديل عن ذلك هو استنهاض كل الهيئات والمنظمات والحكومات في العالم لممارسة دورها في فرض حماية دولية على القدس، وكف يد سلطات الاحتلال عن السيطرة الغاشمة على المدينة وأهلها ومقدساتها.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"