نهاية أحجية ترامب

02:02 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

استغرقت أقصوصة باراك أوباما مدة أقصر بكثير مما كان مقرراً لها أن تدوم على مستوى المشهد السياسي الأمريكي والعالمي، فقد اعتقد الجميع في غمرة الأزمة الاقتصادية التي شهدها العالم في سبتمبر سنة 2008، أن هناك تطوراً هائلاً وغير مسبوق قد حدث على مستوى سلم القيم في السياسة العالمية، وأن انتخاب أول رئيس أسود في أكبر دولة في العالم يمثل تجسيداً لواقع جديد وغير مسبوق. وحاولت بعض التحليلات المتفائلة أن تقدم استنتاجات متسرّعة لهذا الحدث الفجائي، الذي تبين لاحقا أنه لم يكن سوى تحوّل عرضي في مسار الممارسة السياسية في بلد العم سام، الذي أتعبته حماقات ومغامرات المحافظين الجدد بقيادة جورج بوش الابن.
وبالتالي فإنه ومع نهاية العام الأول من حكم أوباما بدأت أحداث الأقصوصة تدخل مراحلها المبتذلة والمملة بسبب ضعف الحبكة وضبابية الشخوص المكوّنة لها، وبخاصة بعد أن انفلتت شياطين التطرف والعنصرية في العديد من الولايات الأمريكية، نتيجة قيام زعماء حزب الشاي بالدفاع عن قيم الرجل الأبيض التي أساءت إليها النخب الحاكمة في واشنطن بعد أن أفسحت المجال لإمكانية انتخاب رئيس «زنجي» من أصول إفريقية، بهدف تسويق صورة مزيفة للعالم الخارجي. وسرعان ما انتهت الحكاية ومعها أحداث الأقصوصة بصور حزينة، مفسحة المجال لبداية أحجية ترامب التي دفعت المحللين وصناع السياسة الدولية إلى طرح افتراضاتهم وتوقعاتهم بشأن القرارات التي سيقدم على اتخاذها ساكن البيت الأبيض الجديد، المعروف بتصريحاته الإعلامية وبشطحاته الشعبوية، والذي يفصح من خلال أقواله وأفعاله عن طبيعة شخصية مركبة ذات مزاج متقلب ومن الصعوبة بمكان التنبؤ بردود أفعالها.
وقد تبين بعد مرور قرابة شهرين على انتقال ترامب إلى مكتبه البيضاوي، أن ألغاز وأحجيات هذا الرجل لم تكن سوى خطابات دعائية تفتقد إلى مضامين واقعية بالنسبة لأغلب الملفات الداخلية والخارجية التي تحدث عنها، فبالنسبة لموضوع الهجرة ما زال ترامب يخبط في مسلسل هزلي من الإقبال والإدبار، وأفصح قراره الجديد المتعلق باستثناء العراق من قائمة الدول السبع التي يشملها قرار حظر دخول مواطنيها إلى الولايات المتحدة، عن غياب الاحترافية السياسية بشكل لا يليق بمستوى أقوى دولة في العالم؛ ومن المنتظر أن يستمر هذا التخبط مستقبلا لأن العالم أصبح قرية صغيرة، ولن ينجح ترامب في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء سواء تعلق الأمر بملف الهجرة أو بملفات التجارة الخارجية والسياسة الحمائية التي يريد تطبيقها تجسيدا لشعاره الفضفاض «أمريكا أولاً».
أما في ما يتعلق بموضوع الصراع العربي - «الإسرائيلي»، فإن ترامب لا يعرف حتى الآن على أي رجل يرقص، فهو وإن جدّد في مناسبات عديدة دعمه ل «إسرائيل»، إلا أنه لم يستطع حتى الآن الوفاء بكل تعهداته نحو قادة «تل أبيب»، لأنه بات يعلم جيداً أن هذا الصراع أعقد بكثير مما كان يتوقع، وأن قراراته غير المدروسة يمكنها أن تفتح أبواب جهنم على الجميع في منطقة تعيش منذ سنوات عديدة فوق براميل من البارود. ومن ثمة فإنه عندما يتحدث عن ضرورة استئناف محادثات السلام في منطقة الشرق الأوسط، فيبدو وكأنه يريد أن يحقق نوعاً من التوازن في سياساته بالمنطقة على مستوى الأقوال التي تكذبها الأفعال، من منطلق قناعته الضمنية أنه لا يستطيع أن يقدّم للطرف الفلسطيني، عروضا سياسية من شأنها أن ترقى إلى مستوى الاقتراحات المتوازنة نسبياً، التي قدمتها الإدارة الأمريكية السابقة ورفضتها حكومة نتنياهو، وسيواصل سلوكياته الاستعراضية إلى غاية نهاية ولايته الرئاسية في سنة 2020؛ أما بالنسبة لدعوته لمحمود عباس لزيارة واشنطن، فمن الواضح أنها لا تعدو أن تكون جزءاً من حملة العلاقات العامة التي يحرص البيت الأبيض على تنشيطها وفقاً لبرنامج ترويجي مدروس جرى إعداده من طرف جوقته السياسية.
ونستطيع أن نلاحظ في سياق متصل أن عناصر أحجية ترامب بالنسبة لروسيا بدأت تشهد المصير نفسه من حيث غياب الحصافة السياسية، حيث إن قسماً معتبراً من الإدارة الأمريكية الجديدة بات متهما بإقامة علاقة مشبوهة مع موسكو بدءاً من وزير العدل ووصولا إلى ترامب نفسه، الذي بدأ يتراجع عن وعوده المتعلقة بإقامة علاقة ودية مع روسيا نافياً في اللحظة نفسها، أنه سيكون أكثر تسامحاً مع قادة الكرملين. ويمكن أن نستنتج بناءً على ما تقدم من تطورات بشأن هذا الملف، أن المؤسسة الأمنية والتشريعية الأمريكية ومعها المركب الصناعي - العسكري، يملكان تقييماً مغايراً بالنسبة للعلاقة مع موسكو يتعارض بشكل كامل مع التصورات التي كان يتبناها ترامب أثناء حملته الانتخابية.
ويذهب المراقبون للشأن السياسي الأمريكي، إلى أن خطاب ترامب الأخير الهادئ والمتوازن أمام الكونغرس الأمريكي، كرّس إلى حد بعيد لحظة بداية مرحلة جديدة في مسار هذا الرئيس، الذي يبدو أنه بدأ يستوعب تدريجيا، أن المنصب الذي يتولاه يفرض عليه الانصياع لقواعد ذات صلة وثيقة بثقافة وأبجديات ممارسة السلطة السياسية في الولايات المتحدة.
ونستطيع أن نخلص في الأخير إلى أن المصالح الكبرى والحيوية للدول والمجتمعات ومعها منطق الدولة الذي يهيمن على المشهد السياسي في الدول الكبرى، كفيل بأن يطيح بكل التوقعات المتسرّعة التي تؤمن بالتغيرات الفجائية المتعارضة مع حسابات الأمن القومي ومقتضيات منطق الدول؛ منطق جبّار وفي منتهى الصلابة والقوة، استطاع أن ينهي في زمن قياسي أقصوصة أوباما الحالمة، وهو الآن بصدد تفكيك ما تبقى من أحجية ترامب، ليؤكد للجميع أن هذا المنطق يتجاوز بكثير قدرة الأشخاص على إحداث الاختراقات المتوقعة على مستوى الرهانات الاستراتيجية للدول.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"