نهاية الجمهورية الخامسة الفرنسية

03:24 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي
تكتسب الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي تجري دورتها الأولى الأحد المقبل أهمية فائقة هذه المرة، ذلك أن وصول اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان إلى الأليزيه بات، للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً، أمراً ممكن الحدوث كما قال الرئيس هولاند، وكما تؤكد استطلاعات الرأي التي تضع لوبان في مقدمة المرشحين الرئاسيين وتحسم بأن وصولها إلى الدورة الثانية في ٧ مايو/أيار المقبل بات أمراً مؤكداً.
والمعروف أن فوز لوبان بالرئاسة يعني خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سيؤدي، من دون مبالغة، إلى نهاية هذا الاتحاد وهبوب الرياح الشعبوية الديماغوجية على كل الفضاء الأوروبي.
وكانت استطلاعات الرأي تتوقع وصول مرشح «الجمهوريين»، أي الحزب اليميني التقليدي الديغولي، فرانسوا فيون إلى الدورة الثانية والتغلب فيها على لوبان. لكن منذ أن بدأت ملاحقته من القضاء والإعلام بتهمة منح زوجته وظيفة وهمية عندما كان نائباً ورئيساً للوزراء، بدأ موقعه يتراجع في هذه الاستطلاعات (من ٢٧٪ إلى أقل من ١٧٪ اليوم) كما بدأ مؤيدوه ينفضون من حوله (وصل عددهم إلى حوالي ٢٥٠ شخصية) ومنهم مدير حملته الانتخابية الذي اعتبر أن حظوظه بالفوز باتت شبه معدومة.
من جهته رشح الحزب الاشتراكي الوزير السابق في حكومة هولاند بنوا هامون والذي لا يمتلك شعبية خاصة أو حيثية معينة للفوز بانتخابات في مثل هذه الأهمية، لا سيما أن الحزب في أمس الحاجة اليوم إلى شخصية كاريزماتية جامعة تغطي على إخفاقات عهد هولاند الذي وصلت شعبيته إلى مستويات متدنية غير مسبوقة اضطرته للعزوف عن الترشح. وقد تقدم هامون بوعود انتخابية واضحة في يساريتها، لكنه أخذ يتراجع عن بعضها خلال حملته الانتخابية إثر تعرضه لانتقادات حول عدم واقعيتها وآثارها السلبية على الاقتصاد الوطني. وليس هناك من استطلاع واحد للرأي يتوقع لهامون عبور الدورة الأولى من الانتخابات (آخر استطلاع توقع له عدم تجاوز عتبة ال ١٠٪). أكثر من ذلك فهناك الكثير من الأوزان الثقيلة في حزبه أعرضوا عن تأييده، بل أن بعضهم انضم لمنافسيه، الأمر الذي اعتبره هامون خناجر في الظهر.
والجديد الذي لم يكن متوقعاً في هذه الانتخابات هو الصعود المتسارع لمرشح يسار اليسار جان-لوك ميلانشون، الذي قفزت شعبيته من أقل من ١٠٪ (المركز الخامس بين المرشحين) في بداية الحملة الانتخابية إلى حوالي ١٧٪ ليزاحم بذلك فيون على المركز الثالث. إنه أمر لا يصدق أن يصبح ممكناً في فرنسا وصول اليسار المتشدد إلى الدورة الثانية لينافس اليمين المتطرف!
أما المرشح الأوفر حظاً على ما يبدو فهو ايمانويل ماكرون وزير الاقتصاد السابق والذي كان حتى الأمس القريب من المقربين جداً لهولاند. وجد ماكرون بأن السفينة الاشتراكية تغرق فقفز منها ليشكل حركته الخاصة «إلى الأمام» التي تنسب الوسطية لنفسها بعيداً عن اليسار واليمين التقليديان وتقدم طروحات أقرب إلى الليبرالية-الاجتماعية. ويبدو أن الرجل رغم صغر سنه (٣٩ عاماً) وحداثة حركته السياسية (عمرها حوالي عام واحد) نجح في إقناع شرائح واسعة من الفرنسيين بأنه يشكل البديل المنتظر عن اليمين واليسار اللذان يحكمان فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وتؤكد كل استطلاعات الرأي بأنه سيصل إلى الدورة الثانية (حوالي ٢٨٪ في الدورة الأولى) ويفوز فيها على مارين لوبان بنسبة تزيد على الستين في المائة من الأصوات.
لا يملك ماكرون قاعدة شعبية ولا سياسية راسخة وهو يحتاج إلى أغلبية برلمانية في حال فوزه بالرئاسة وإلا «فإن فرنسا ستكون بلداً غير قابل للحكم» كما حذر منافسوه. لذلك بدأ، منذ اللحظة، يدعو الناخبين إلى منحه أغلبية برلمانية تمكنه من الحكم. وستجري الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران المقبل أي بعد شهر واحد على استلام الرئيس الجديد للسلطة.
صحيح أن استطلاعات الرأي قد تخطئ في توقعاتها. لكن الحملة الانتخابية في فرنسا اليوم تكشف، للعارفين والمحللين وباستطلاعات أومن دونها، أن اليمين واليسار التقليديان يحتضران وبأن خريطة حزبية وسياسية جديدة قيد التشكل على مرحلتين: الانتخابات الرئاسية المقبلة ثم البرلمانية التي ستليها مباشرة. والمرشحان الأوفر حظاً، ماكرون ولوبان (ولا الثالث إذا افترضنا أنه ميلانشون)، لا يملكان القدرة على تأمين أغلبية برلمانية، ما يعني أن الرئيس المقبل سوف يضطر إلى تشكيل ائتلاف هجين من أحزاب عديدة لتشكيل الحكومة المقبلة. الأمر الذي يشكل نهاية للجمهورية الخامسة التي أمنت، منذ عام ١٩٥٨ إلى اليوم، استقراراً سياسياً نتيجة اعتماد الرئيس على أغلبية برلمانية.ومنذ عام ٢٠٠٢ تم تقليص ولاية رئيس الجمهورية من سبع إلى خمس سنوات مع إجراء الانتخابات الرئاسية ثم التشريعية في أوقات جد متقاربة تلافياً لأوضاع يضطر فيها الرئيس المفتقد إلى أغلبية برلمانية إلى تكليف رئيس حكومة من حزب معارض له.
من المؤكد أن النظام السياسي القائم في فرنسا بصدد الأفول على خلفية نهاية الخارطة السياسية والحزبية التقليدية المنقسمة بين يمين ويسار، الأمر الذي يدعو الحكم الجديد إلى المسارعة لفتح ورشة تعديلات دستورية تؤسس لجمهورية سادسة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"