نهاية القطبية الثنائية الحزبية في أوروبا

02:17 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

في كل الدول الأوروبية تقريباً هناك ظاهرة تراجع واضح للأحزاب التقليدية، اليمينية واليسارية على حد سواء. وتعرضت عملية تداول السلطة ما بين المحافظين والديمقراطيين الاجتماعيين أو الاشتراكيين إلى ضربات قاصمة على يد قوى سياسية جديدة صاعدة يصعب تصنيفها يميناً أو يساراً.
في إسبانيا وفرنسا كشفت الانتخابات الأخيرة، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن تراجع للقطبية الحزبية الثنائية يمين/ يسار والتي أمّنت، منذ عقود طويلة، استقراراً للنظام السياسي وانتظاماً لعمل السلطة التنفيذية، كما هي الحال في معظم الدول الأوروبية. فالانتخابات المناطقية الفرنسية الأخيرة بينت عن وجود ثلاث قوى سياسية متعادلة تقريباً في القوة، هي اليمين واليسار والجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة. وهذا ما سوف يعقد عملية تشكيل أغلبية برلمانية وبالتالي حكومة فرنسية مستقرة، غداة الانتخابات التشريعية المقررة في العام 2017، كما يتوقع المحللون. بدورها أنتجت الانتخابات التشريعية الإسبانية الأخيرة رباعية حزبية لم تكن موجودة من ذي قبل (الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي العمالي الإسباني وبوديموس وغيودادانوس) باشرت بتعقيد عملية تشكيل حكومة جديدة بسبب افتقار كل من هذه القوى الحزبية إلى أغلبية برلمانية مريحة، الأمر الذي قد يدفع إلى انتخابات تشريعية جديدة في مارس/آذار القادم.
لقد كانت القطبية الحزبية الثنائية تسهل، في الواقع، ولادة أغلبية برلمانية في البلدين أي تداول للسلطة بين القوتين السياسيتين القادرتين على تأمين استقرار السلطة التنفيذية.
هذا التداول طبع الوضع السياسي في معظم الديمقراطيات الأوروبية حيث قامت الحياة السياسية على وجود حزبين كبيرين أو على الأقل ائتلافين كبيرين يتنافسان في كل انتخابات ويتناوبان على رأس السلطة التنفيذية في فترات زمنية متقاربة إلى حد ما. منذ الحرب العالمية تواجهت الأحزاب المحافظة والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في مبارزة ثنائية «طقسية» استقرت في صلب اللعبة المؤسساتية. وهذا ما شهدناه منذ بداية الجمهورية الخامسة الفرنسية حيث كان الديغوليون، الذين وصفوا أنفسهم بالوسطيين في حين صنفهم الآخرون باليمينيين، في تنافس مع الاشتراكيين الذين تحالفوا مع اليسار الراديكالي وأحياناً مع الشيوعيين أو الخضر. وهذا ما ينطبق على إسبانيا، ولو بأشكال أخرى، منذ سقوط الفرانكية، وأيضاً على المملكة المتحدة (العماليون ضد المحافظين) وألمانيا (الحزب الاشتراكي ضد الحزب المسيحي الديمقراطي) أو إيطاليا (رومانو برودي ضد سيلفيو برلسكوني) أو اليونان (البازوك ضد الديمقراطية الجدية).
هذا المشهد التقليدي يتعرض للاهتزاز اليوم بسبب الضعف الذي دبّ في مفاصل الأحزاب السياسية الكبرى الحاكمة، من اليمين أو اليسار، وبسبب صعود قوى سياسية جديدة أتت لتهز توازن النظام القائم. ومن خلال هذه التشكيلات الحزبية الجديدة المعارضة، التي تهدد الأحزاب القائمة، يتم التعبير منذ عشرين عاماً تقريباً، عن السخط الشعبي وعن خيبات أمل قسم متعاظم من الشعوب الأوروبية حيال العجز الواضح للتشكيلات التقليدية عن مواجهة الصعوبات الناتجة من عالم متغير وعدم قدرتها على تجديد خطابها للتكيف معه كما عدم قدرتها على تجديد أفكارها وقياداتها ومناهج عملها. صعود «الشعبويات» في أوروبا هو أحد الأجوبة التي حملها بعض الناخبين في مواجهة هذا العجز الذي تعانيه الأحزاب التقليدية، التي يُنظر إليها، عن حق أو عن باطل، على أنها بعيدة عن الشعب وغير متجاوبة مع تطلعاته فضلاً عن كونها مصابة بداء الفساد.
ولأسباب تتعلق بتاريخ كل بلد أوروبي فإن الأحزاب المعارضة الجديدة يمكن أن تكون من اليمين أو اليسار، أو لا تكون. في إسبانيا ولدت حركة بوديموس (وتعني«نستطيع») في العام 2014 وهي تنتمي إلى اليسار الراديكالي، أما غيودادينوس (أي المواطنين الجدد) والمولودة حديثاً هي الأخرى فتصنف نفسها في اليمين الوسط. لكن في فرنسا اتجه الناخبون صوب «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرفة أكثر منه صوب اليسار الراديكالي. الأمر نفسه ينطبق على هولندا، رغم أن ما حصل عليه «حزب الحرية» اليميني المتطرف، في انتخابات العام 2012 الأخيرة، يبقى أقل مما حصلت عليه الجبهة الوطنية الفرنسية من أصوات. هناك أيضاً صعود للأحزاب القومية والوطنية في كاتالونيا واسكتلندا والفلاندر(هولندا) وحتى كورسيكا.. ولا ننسى أيضاً الأحزاب المناهضة للاتحاد الأوروبي والداعية للانسحاب منه والعودة إلى الحدود الوطنية، مثل حزب «استقلال المملكة المتحدة» في بريطانيا أو «البديل» في ألمانيا. معظم هذه التشكيلات تعلن بأنها تود ممارسة السياسة بشكل آخر مختلف وتعد بالاستماع الى المواطنين واحترام تطلعاتهم وممارسة ديمقراطية جديدة. لكن لا تزال هذه الأحزاب بعيدة عن الوصول إلى السلطة، ومن المعروف أن المعارضة شيء والحكم شيء آخر مختلف تماماً، لذلك فالوعود الانتخابية تنحصر مهمتها بالمعركة الانتخابية نفسها وينتهي مفعولها مع انتهاء الانتخابات. هذا ما جرّبه الناخبون، منذ زمن طويل، مع الأحزاب التقليدية الكبرى. وهم يدركون بأن الأحزاب الجديدة المعارضة لن تكون أفضل حالاً إذا ما وصلت إلى الحكم، لكنهم يقترعون لمصلحتها فقط من أجل الاحتجاج. لكنهم بفعلهم هذا يساهمون في قلب المشهد الحزبي والإجهاز على الثنائية الحزبية وفي دفع المشهد السياسي خارج الاستقرار الذي بدأ يتصف بالرتابة والجمود.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"