نوعية الجرائم

02:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.مصطفى الفقي

مثلما يكون الطفح الجلدي تعبيراً عن علّة في الجسد، فإن جرائم المجتمعات هي الأخرى تعد تعبيراً عن علّة في الوطن، والمصريون تابعوا في الفترة الأخيرة، بقلق، نوعية الجرائم وعددها في صورة تدعو إلى مراجعة الأسباب والتفكير في الملابسات. أب طبيب يذبح زوجته الطبيبة، وأطفاله الثلاثة، وعشرات الحالات من قتل الزوجات لأزواجهن، أو العكس، مع العدوان الجائر على الطفولة داخل الأسرة، بشكل يجعل زنا المحارم مقترناً بسفك الدماء، وإزهاق الأرواح، إننا أمام عصر جديد يخشى فيه المرء على من يتركهم في الحياة وفقاً لقوله تعالى (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً)، والآن، دعنا نبحث في الأسباب التي تقف وراء هذه الظواهر الجديدة التي تستهين بالأرحام، وتقتل الأطفال، وتسمم الرجال، وتخنق النساء. إن الأمر في ظني يرتبط بعدد من العوامل أطرحها الآن للتأمل سعياً نحو الخروج من البيئة الحاضنة لهذه النوعية من الجرائم البشعة:
* أولاً: الضائقة الاقتصادية: إن الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، مع ما يبدو من أنه لا مناص منها ولا بديل عنها، إلا أن الطبقات الأكثر عدداً، والأشد فقراً، بدأت تعاني بشكل فاق كل التوقعات، والحكومة تمضي في برنامجها الإصلاحي الذي يلقي عبئاً كبيراً في جانبه الاقتصادي، على طبقات غير قادرة على التحمل، خصوصاً أن ذلك البرنامج قد جرى ترحيله من أجيال إلى أخرى، حتى وصل إلى وقتنا الحاضر، فأصبحت كلفته عالية، وثمنه غالياً، وبهذه المناسبة، فإننا نرى أن الحل الأمثل هو تحميل الفئات العليا في المجتمع العبء الأكبر من هذا التحول، خصوصاً أن الطبقة الوسطى قد تحللت في العقود الأخيرة، ولم يعد هناك مجال لأن تتحمل هي الأخرى أعباءً جديدة.
* ثانياً: شيوع المخدرات: إن ذلك الداء اللعين الذي استشرى في عالمنا المعاصر تحت مسميات جديدة، ومواد مخدرة طبية، أو نباتية، هو واحد من أكثر الأمور فتكاً بالمواطن المصري، لأنها تمزق المشاعر، وتعبث بالعقل، وتطيح بالضمير، وتحيل الإنسان إلى كتلة بلا وعي، أو شرف، ولذلك فإن محاربة المخدرات بكافة أنواعها هي واجب أصيل على الدولة والمجتمع المدني، وكل من يحمل قدراً من المعرفة، أو تجري في عروقه دماء مصرية تسري بالوطنية الصادقة، والخوف من المستقبل، والحرص على الأجيال القادمة، ولعلنا نشير هنا إلى أن معظم الجرائم الجديدة تقع تحت تأثير المخدرات بأنواعها المختلفة، حيث تخلق تهيؤات كاذبة، وأوهاماً لا وجود لها، فتجعل الجريمة سهلة، وتقتل الضمير حتى يطيح الجاني بضحيته.
* ثالثاً: التفكك الأسري: لابد أن نعترف هنا، بشجاعة، بأن التكنولوجيا الحديثة برغم كل مزاياها قد أسهمت في نوع من التفكك الأسري، وقضت على التجمعات العائلية، وأصابت الحياة الأسرية بدرجة من البرودة، حتى أصبح صقيع الزمن الرديء دافعاً للعزلة، ومبرراً للتوحد، ودافعاً نحو الجريمة، في غياب أواصر القربى، ولحمة الحياة التي تعلّم الجميع حرمة الدم، قريباً أو بعيداً. إن التربية في المدارس، والعظات في المساجد، والكنائس، والبرامج في التلفزيون والإذاعة، كلها مسؤولة عن تكوين العقل الجمعي للأسرة المصرية، ولابد من خلال كل ذلك تفكيك ما استقر في الأذهان المريضة، وتركيب رؤية نظيفة، وعقل سوي، وفكر مستنير.
* رابعاً: تراجع الوازع الديني والأخلاقي: لقد أسهم التطرف بشراسة وضراوة في خلق مخاوف لدى الأغلب الأعم من الناس من الإفراط في التدين معتبرين، أن ذلك يفتح باباً يمكن من خلاله استقطاب أبنائهم، وبناتهم، والمضي بهم، أو بهن، في طريق لا يعلمه إلا الله، ولذلك فإن ضعف الشعور الديني، وشيوع الإلحاد، وانتشار حالة التمرد لدى الشباب، قد خلقت لديه منظومة يائسة تسمح له بأن يقتل، وأن يجرح، وأن يغتصب، من دون أن يرجف له جفن، وقد أصبح علينا الآن أن نراجع تلك المنظومة الهائلة من تراكم القيم والتقاليد التي عفى عليها الزمن والأفكار المريضة التي هجرتها مجتمعات كثيرة، وهنا تبدو محنة التعليم، وأزمة التربية، وأهمية الصعود بهما إلى مدارج عليا تحمي الوطن وأبناءه وتضرب الجريمة في مقتل وتعلم الجميع أهمية التسامح الذي تتميز به مصر عبر أحقابها المتتالية.
إن الجريمة العائلية، والمجازر الأسرية، هي نتاج طبيعي للعوامل التي أسلفناها، ولابد من إجراءات وقائية لا تتوقف عند حدود العقاب القانوني، أو العلاج الأمني، بل لا بد من حملات توعية شاملة مع التأكيد بوجه خاص على دور المرأة، صانعة الطفولة، ومربية الأجيال، وحاملة القيم الإيجابية، وصاحبة الفضل على الأمم فهي «مدرسة إن أعددتها أعدت شعباً طيب الأعراق».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"