نوف وياسمين والهوية

03:29 صباحا
قراءة 4 دقائق

في حوار الدوحة الذي جرى قبل أيام عدة، ونظمته شبكة الجزيرة ومجلة وجهات نظر المصرية، وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي UNDP، ومركز الدراسات الدولية بجامعة جورج تاون في قطر، كان الحوار ساخناً، بين اكاديميين ومثقفين وممارسين للعمل العام، حول قضايا الشرعية والدولة والمواطنة والحرية والهوية، وهي قضايا تناولها بالتقييم والتحليل تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي صدر في النصف الثاني من عام ،2009 وركز فيها حول الأمن الإنساني، وما يواجه أمن الإنسان العربي من تحديات وتهديدات، تقوض أمنه، وهو الأساس المادي والمعنوي لحماية وضمان حياة الإنسان نفسه، ومصادر معيشته، وضمان حقوقه وحرياته الأساسية .

وقد ادرك المشاركون في هذا الحوار، أن منظوراً جديداً لمفهوم الأمن، بحاجة إلى تعميم وتعزيز، باعتبار أن أمن الدولة العربية، وأمن الإنسان، هما وجهان لعملة واحدة، فضمان أمن الإنسان يمكن الدولة العربية من استحقاق شرعيتها في نظر مواطنيها، وذلك من خلال ضمان الأمن الغذائي والصحي والبيئي والمائي، واستقلال القضاء ومبدأ المواطنة، وحماية الفئات الضعيفة، ومعالجة مواطن الضعف الاقتصادي من جوع وبطالة وفقر، وحماية الوطن من التدخلات الخارجية والنزاعات الداخلية، التي تزيد المعاناة الإنسانية وتقوي نزعات الغلو والتطرف، وتطلق الهويات الفئوية والمذهبية الصغرى من عقالها وعقلها . وفي المحصلة، فإن انعدام أمن الإنسان، يقوض التنمية في المجتمع، وينتهي إلى تهديد أمن الدولة العربية .

وقد طرح المشاركون الكثير من التساؤلات، حول هذا المفهوم الجديد للأمن الإنساني، بعناصره السبعة، والتي توفر الإطار المناسب للعقد الاجتماعي في المجتمعات العربية، بدءاً من تحرر الإنسان من الخوف، وتخلصه من ثقافة الخوف في مستوياته المختلفة، وانتهاء بتحرره من الحاجة، مروراً بضمان حقوقه من دون تفرقة أو تمييز، وعلى قاعدة المواطنة، كمفهوم معياري أساسي في ادارة التنوع الثقافي والاثني والطائفي، وكجزء لا يتجزأ من الحكم الرشيد، وفي ظل القانون وواقع الممارسة .

وباعتبار أن المواطنة، ليست مجرد علاقة قانونية أو حقوقية عمودية بين الدولة والمواطن، بل هي أيضاً علاقة مجتمعية ومسلكية وثقافية بين المواطنين أنفسهم وبطريقة افقية . من خلال القيم الاجتماعية المدنية المتمثلة، بالتعاون والتعاضد، وحسن الجوار والتعايش، وحل النزاعات والاختلافات بالحوار والطرق القانونية والسلمية .

وقد أثرت في الجلسة الأخيرة من جلسات حوار الدوحة، مسألة غياب عنصر الأمن الثقافي في تقرير التنمية الإنسانية ،2009 فهو لا يقل خطورة وأهمية عن الأمن الصحي أو البيئي وغيرهما من أركان أمن الإنسان السبعة .

والأمن الثقافي هو الذي يحمي الإنسان من الارتهان والتبعية، خاصة حينما يكتسب مفهوماً بنائياً وتراكمياً وليس انكفاءً، وهو أيضاً بوصلة الإنسان في بحور الثقافة الكونية وقيمها العابرة للحدود .

* وحينما تخوف زعماء فرنسا من مدى قدرة الهوية الثقافة الفرنسية، على الصمود في وجه الاختراق الثقافي والإعلامي الأجنبي، عارضوا اتفاقيات الجات، حماية للهوية الثقافية الفرنسية .

* إن للهوية الثقافية، صلة أساسية بنمط الحياة، وبعملية نجاح أو فشل الخيارات السياسية والاقتصادية في المجتمع، وبانماط العيش والسلوك والعادات والتقاليد والفكر السائد واللغة .

* من ناحية أخرى، فإن فشل الدولة العربية، في تأسيس ورعاية مشروعها الثقافي الوطني الجامع، سمح بنمو مؤسسات وتركيبات ثقافية تقليدية، ذات طابع مذهبي أو اثني أو عشائري، حيث تقدمت لملء الفراغ، من خلال هويات مصنعة تفتيتية، تشكل خطراً على تماسك المجتمعات، وعلى أمن الإنسان ذاته .

* ومن حسن حظ اقتراحي المقدم للمنتدى، حول الأمن الثقافي، ما حدث في نهاية الجلسة الأخيرة، والمبثوثة مباشرة على فضائية الجزيرة، حيث شاهدها الملايين حينما أصرت نوف وياسمين، وهما طالبتان من قطر ومصر تخرجتا للتو في جامعة جورج تاون بالدوحة على التحدث باللغة الانجليزية، لأنها في رأيهما لغة التفكير والأداة الأفضل للتعبير عن آرائهما . وأمام هذا الاصرار رغم الحاح المشاركين في منتدى الحوار على طلب الاستماع لهذا الجيل الجديد ومعرفة رؤيته للقضايا التي استمع إليها خلال يومين من المناقشات، ذكرت إحداهما أن شقيقتها الصغرى تخجل من التحدث باللغة العربية .

وقد واجهت الفتاتان هجوماً شديداً من الكبار في المنتدى، تألم البعض، وحزن آخرون، حتى قالت نوف نحن الضحية، أنتم، جيل الآباء، الذي دفع بنا إلى المدارس الأجنبية، وإلى الجامعات التي لا تشترط معرفتنا بلغتنا الأم .

وتساءل البعض عن حجم أو نسبة هذا الجيل المغرّب عن لغته القومية، وطمأنتنا كاتبة لبنانية مثقفة، بأن النسبة قليلة للغاية، كما طمأنتنا كاتبة عربية تقيم في باريس، وتحاضر باللغة الفرنسية، بأن ابنتها التي نشأت وتعلمت في فرنسا، تصحح للأم، حينما تخطئ في النحو والاعراب .

بقي السؤال الحائر: من أين جاء هذا الاستخفاف باللغة العربية؟ رغم أنها تحظى بقداسة تحسدها عليها لغات أخرى حية، وما الذي نزع النبض والدسم عن هذه اللغة - الهوية .

إن الكتابة عن هذا السؤال، لن يكون لها معنى، إذا اغفلنا دورنا الذاتي في هذا الاستخفاف، وهذا الأذى . بشرط أن لا نفرط في استخدام الأفعال المبنية للمجهول حينما تتحدث عن الإجابة .

* إن فقدان اللغة الأم، هو هوية مقضومة، وفيها يفقد الإنسان المشيتين، فلا هو غراب يعرف، ولا حمامة تعرف، وتظل حواسه جائعة، تهرب الى المعلب والمثلج، وتغسل ذاكرته، ويحرم نفسه من روافد تاريخه وثقافته وحضارته، ويظل مفتوناً بكل ما يصدر عن الغالب السائد في الراهن .

* ويزداد الأمر سوءاً، حينما يكتشف الفاقد للغته الأم، أن تمكنه من اللغة الانجليزية، هو مجرد اشباع كاذب، يصلح للحديث في الأسواق والسياحة، ولا يصلح للعلم والتقانة والثقافة، ولا يدله على مصادر فكر هذه اللغة وعوالمها الأدبية والحضارية .

نوف وياسمين . . نشرتا غسيل التعليم وغسيل الآباء على شاشات الفضائيات .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"