هدايا أمريكية من جيوب الآخرين

02:30 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

بالرغم من مخاطره وتهافته، فإن الموقف الأمريكي الجديد الذي عبّر عنه وزير الخارجية مايك بومبيو بشأن المستوطنات لا يشكل مفاجأة كبيرة، فقد دأبت الإدارة الحالية على مخالفة القانون الدولي والإجماع الدولي بخصوص الاحتلال العسكري والاستيطاني للضفة الغربية الفلسطينية. وهو ما يطعن في صدقية هذه الإدارة وفي حِسّ المسؤولية لديها، بل إن الإدارة بمثل هذه المواقف الشاذة وغير المسؤولة تُلقي ظلالاً على مواقفها الصحيحة تجاه قضايا أخرى في عالمنا. إذ لا يمكن الجمع بين صيف وشتاء تحت سقف واحد، ويستحيل التعامل مع القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن بهذه الانتقائية ،التي لا تليق بالدولة العظمى التي يفترض أن تكون إلى جانب الدول الكبيرة الأخرى، حارسة للقانون الدولي ومؤتمنة على الشرعية الدولية.
لقد ارتضت هذه الإدارة إلحاق الموقف الرسمي بالمواقف التي يعلنها وينفذها اليمين الأشد تطرفاً في تل أبيب، ووضعت هذه الإدارة «نفسها» في خدمة هذا اليمين التوسعي المناوئ للسلام. وليس الموقف الأخير الذي صرّح به بومبيو، بخصوص الغزو الاستيطاني للأراضي المحتلة، سوى هدية إضافية لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، لكنها هدية تؤخذ من جيوب الفلسطينيين .. ويا لها من أمانة، ويا لهُ من سخاء! حين يتم سلب الرازحين تحت الاحتلال، حقوقهم في أرضهم، والقيام بإهدائها إلى الطرف القائم بالاحتلال. وكان يمكن لبومبيو وبقية أركان الإدارة أن يمنحوا شيئاً يخصهم ويمتلكونه (أراضٍ أمريكية مثلاً) ما دامت نوبة الكرم تستحوذ عليهم إلى هذه الدرجة، وما داموا مُصرين على تقديم هدايا سخية ليست من ممتلكاتهم، ومنحها لمن لا يستحقونها.
تنجح الإدارة بذلك في عزل أمريكا عن بقية المجتمع الدولي، وهذا ما تشهد به اجتماعات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، والمواقف التي أعلنها الاتحاد الأوروبي، وما تشهد به الفاتيكان التي قلما تعلن مواقف سياسية، لكن الموقف الأمريكي المفرط في نشازه وشذوذه، حمل حاضرة الكاثوليك على الخروج من المألوف والتذكير بالموقف الذي تتبناه والقائم على حل الدولتين والتنديد بأي موقف آخر يطعن بهذا الحل أو يقفز عنه. ولا شك أنه أمرٌ يفتقد إلى الحد الأدنى من الفطنة والحس السليم والإدراك البشري الطبيعي، أن يسعى مسؤولون في الإدارة الحالية إلى وضع أمريكا في مثل هذه الموضع المعزول، وفي مواجهة بقية دول العالم كبيرها وصغيرها في القارات الست. وهذا الثمن المعنوي الباهظ تدفعه واشنطن من سمعتها ومن مكانتها، إكراماً لشخص واحد تحيط به الشبهات القانونية، ومعه حفنة من المتطرفين المهووسين المناوئين للسلام.
ومن البائس أن يتم التذاكي بالقول إن اعتبار المستوطنات تخالف القانون الدولي. إذ إنه لا يصح التراجع عن مبادئ قانونية سليمة، لمجرد أن بعض الخارجين عن هذا القانون، يرفضون الأخذ بهذه المبادئ والعمل بمقتضاها. فذلك معناه التشجيع على تعطيل القوانين في عالمنا، لأنها لا تتفق مع مصالح الخارجين عن القوانين!. والصحيح والأصح، أن عرقلة تنفيذ القانون الدولي ينبغي أن تزيد من التشبث به والاحتكام إليه، وإلا تحوّل عالمنا إلى غابة تحكمها شريعة الغاب.
ومثله التذاكي بالقول إن مصير المستوطنات متروك لمفاوضات «إسرائيلية»- فلسطينية. إذ إن التفاوض بين طرفين لا يعني أن يتخلى بقية العالم عن المبادئ والأحكام القانونية التي صاغتها المواثيق الدولية بما فيها مواثيق الأمم المتحدة. ويعرف المسؤولون الأمريكيون جيداً ومعهم بقية المسؤولين في العالم أن التفاوض «الإسرائيلي» الفلسطيني هو تفاوض بين الذئب والحَمَل، ومع ذلك فإن الإدارة الحالية في واشنطن لا تكف عن إلقاء ثقلها وراء الذئب، وتشجيعه على نهش حقوق الطرف الآخر وشرعنة الاستيلاء عليها.
ومن المفارقات الدالة حقاً أن إدارة الرئيس ترامب تتخذ هذا الموقف غير المسؤول، في وقت يواجه فيه الرئيس محاولات عزله في الكونجرس، ولا تجد الإدارة ما تفعله حيال ذلك سوى الاندفاع إلى ارتكاب خطايا مثل خطيئة تشريع الغزو الاستيطاني، فيما الطرف الآخر وهو بنيامين نتنياهو يواجه من جهته اتهامات بالفساد تضعف إلى حد بعيد من أهليته السياسية... والحصيلة أن اقتراف المزيد من الأخطاء يبرهن على التخبط السياسي ولا يؤدي إلى سياسة صحيحة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"