هل تصح المقارنة بين "الربيعين"؟

05:19 صباحا
قراءة 4 دقائق

في بدايات العام 2011 عادت نظرية الدومينو التي راجت غداة انهيار المعسكر الشرقي، في العام ،1989 إلى الظهور، وكذلك المقارنة ما بين الربيع العربي وربيع أوروبا الشرقية والوسطى، أوجه الشبه بين الحدثين الكبيرين كثيرة، لكن، هل تصح المقارنة؟

انهيار النظام الشيوعي لم يترك الشعوب في أوروبا الشرقية أمام المجهول، لأن النموذج الغربي فرض نفسه، في حين أن النظام المقبل في الدول العربية لا يزال مجهولاً ويقع في ظرف دولي مختلف عمّا كان عليه في أوروبا في ثمانينات القرن المنصرم .

في أوروبا أطاح انهيار جدار برلين معه الاقتصادات الموجهة، وفي الوقت نفسه أنظمة الحزب الواحد والخضوع للاتحاد السوفييتي . أما الثورات العربية فلم تقع في قلب مشروع مقرر سلفاً، كما كانت عليه حال الشعوب الأوروبية الشرقية التي كانت تتطلع إلى التخلص من نظام الحزب الواحد، وترغب في نموذج الاستهلاك الغربي . في الحالة العربية لا يتعلق الأمر بالخروج من النموذج الاقتصادي القائم، وهو اقتصاد السوق، إلى نموذج آخر . والطبقة السياسية الجديدة التي تتأهب لحكم مصر وتونس وليبيا واليمن وربما سوريا هي طبقة موالية لاقتصاد السوق، رغم انتقاداتها العنيفة للفساد ونمو الطفيليات النيوليبرالية في ظل النظم السياسية الاستبدادية . لكن أسئلة خطرة تطرح عنقدرتها على النجاح، لاسيما أن الليبرالية الاقتصادية تعيش أزمة عميقة في العالم كله، في حين أن هذه الليبرالية كانت تعيش حالة انتصار في ثمانينات القرن المنصرم، وكانت بمنزلة حلم يتطلع إليه سكان أوروبا الشرقية والوسطى .

في أوروبا أدى تفكك الاتحاد السوفييتي إلى تحرير الديمقراطيات الشعبية من هيمنة خارجية كانت تمنع عليها التحول . هذه الهيمنة المباشرة غير قائمة في الحالة العربية، رغم أن الولايات المتحدة تمارس هيمنة على الانظمة الاستبدادية من جهة وتدعمها من الجهة المقابلة ضد الشعوب . الوضع العربي مختلف ويقع في ظرف إقليمي متوتر إلى درجة القابلية للانفجار في أي لحظة، والثورات فيه تتعرض لمؤامرات ومواجهات مختلفة .

بدوره كان موقف الدول الغربية متفاوتاً بين الحالتين وإن كانت المفاجأة إزاء ما حصل تشكل قاسماً مشتركاً، وسببها عدم إعطاء الأهمية للإشارات التي سبقت الثورات والتي كان من شأنها إضعاف الأنظمة الحاكمة: في الشرق مفاعيل إصلاحات غورباتشوف، أثر حركة تضامن البولونية، التهافت الاقتصادي، شيخوخة الأجهزة السياسية، وفي العالم العربي يمكن أن نذكر تكرار الانتفاضات العربية، كما حصل في قفصة في تونس، أو الإضرابات العمالية المتكررة والمظاهرات في مصر . وفي الحالتين هناك المحسوبية والفساد وتغوّل الدولة الأمنية والقمع .

كانت أوروبا وأمريكا قد تركتا أوروبا الشرقية تواجه مصيرها خلال الحرب الباردة، لكنها عندما فوجئت بالانقلاب واعتبرته مفاجأة ربّانية، بحسب تعبير ستانلي هوفمان، سارعت إلى تقديم كل المساعدة الممكنة السياسية والمالية وصولاً إلى الرعاية المباشرة قبل إدخالها في حلف الاطلسي والاتحاد الأوروبي . في الحالة العربية كان موقف أوروبا وأمريكا متردداً في البداية قبل أن يعلنا تأييدًا للثورات العربية يشوبه خوف وتوجس . في الحالتين التونسية والمصرية كان التأييد سياسياً مع عدم إعطاء الضوء الأخضر لتدخل الجيش بالقوة ضد المتظاهرين، وفي الحالة الليبية قام حلف الأطلسي بالتدخل العسكري المباشر، تحت غطاء مجلس الامن الدولي، لاسقاط القذافي . مع التذكير هنا بأن ليبيا قوة نفطية مهمة جداً ناهيك عن موقعها الاستراتيجي على ضفاف المتوسط . وفي الحالة اليمنية ساعد الغرب على تبني حل وسط بين النظام والثوار، وفي الحالة السورية سيطر التخبط والتردد .

موجة الانتفاضات، من صوفيا إلى بوخارست مروراً ببراغ، أطاحت العواصم الأوروبية الشرقية خلال العام 1989حيث وقف فيها الشعب بكامله يطالب برحيل النظام الشيوعي . على رأس هذا الشعب نجد ناطقين باسمه قادمين من الانشقاقات التي حصلت بين العامين 1970 و1980: زعماء لأحزاب تاريخية، نشطاء بيئيون وشيوعيون إصلاحيون أو أيضاً، كما في الحالة البولونية، زعماء نقابيون وممثلون للكنيسة الكاثوليكية . وينتمي معظم هؤلاء إلى أجيال ذاقت أمر التجارب من الطبيعة المستعصية على الإصلاح للنظام الشيوعي . من جهتها الثورات العربية لم يكن لها قادة، بل كانت أساساً ثورات شبان متعلمين يتصلون تكنولوجياً بالعالم ويتطلعون إلى حياة حرة كريمة، وقد التحق بهم الأكبر سناً بعد أن تحرروا من عقدة الخوف التي لازمتهم طوال حياتهم تحت استبداد النظام .

دور الجيوش يختلف هو الآخر ما بين الحالتين، في أوروبا الشرقية والوسطى حيث كانت الجيوش تابعة للحزب الواحد لم تتحرك ضد المتظاهرين خلال العام ،1989 لا بل إن الجيش في ألمانيا الشرقية، والذي فاجأه الحدث، سهّل مهمة المتظاهرين المتدفقين لتدمير الجدار، وهناك من الجنود من اشتعلت به الحماسة فانضم إليهم . في الحالة التونسية وقف الجيش إلى جانب الثورة في الشوارع حيث قدم له الناس الورود (ثورة الياسمين )، وفي الحالة المصرية حيث الجيش شريك في السلطة ومستفيد منها حاول تهدئة الشارع من دون عنف وانتهى إلى تسلّم الحكم مكان الرئيس المخلوع للفترة الانتقالية . في الحالة اليمنية انقسم الجيش بين مؤيد وموال للرئيس، وفي الحالة السورية لم يتردد الجيش في استخدام قوته في وجه المتظاهرين، ما دفع بالكثير من الجنود والضباط إلى الانشقاق وتشكيل الجيش السوري الحر الذي قاد مواجهات مباشرة مع النظام .

من المبكر إقامة مقارنة بين التحول الديمقراطي أو الانتقال السياسي في كل من الحالتين الأوروبية والعربية، فهنا وهناك تلعب الظروف المحلية دوراً أساسياً، هذا رغم أنه في بولونيا أو تشيكوسلوفاكيا السابقة ولدت قوى سياسية على الفور، وقامت من سباتها قوى قديمة فاتسمت بالتعددية الواضحة أول انتخابات في العام 1989 - 1990 . في تونس تنافس 1562مرشحاً لانتخابات المجلس التأسيسي، وفي مصر تأسس فوراً 48 حزباً جديداً، وفي سوريا تتشكل المعارضة من عشرات الشخصيات والأحزاب السياسية . هنا تصح المقارنة .

الثورات العربية وضعت في مسار دمقرطة على المدى الطويل، وهذا المسار توقف لحظة في أوروبا الشرقية وتعرض للانتكاسات، لاسيما مع انفجار يوغوسلافيا الدرامي . لا ننسى أيضاً أن أوروبا الشرقية قبل العام 1989 كان فيها حراك شعبي ومطالب ديمقراطية تم خنقها وإسكاتها بالقمع (برلين الشرقية ،1953 بودابست ،1956 براغ ،1968 بولونيا 1981)، وقد بزغت من جديد مثل البذار تحت أشكال جديدة في العام 1989 .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"