هل تملأ الدولة العراقية "فراغ" الانسحاب؟

04:42 صباحا
قراءة 4 دقائق

مر الإعلان عن الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق بضجيج قليل، وحده الرئيس أوباما احتفل بالمناسبة وعدّها انتصاراً لبلده . أوروبا الغارقة بأزمة المديونية لم تحفل بالأمر، وكانت قوات تابعة لبعض دولها قد انسحبت تدريجياً من ذلك البلد، روسيا التي تواجه متاعب داخلية على خلفية التشكيك بنزاهة الانتخابات التي فاز بها حزب بوتين، بدت غير عابئة بما يجري، ومنشغلة بالكيفية التي قتل بها القذافي . الصين التي لم يسبق أن كان لها كبير نفوذ في بلاد الرافدين، فلم تبد رد فعل يذكر . العالم العربي منشغل ومتوجس من ارتدادات الربيع العربي إلى هذا البلد أو ذاك، والمحنة السورية ومعها صعود الإسلاميين في دول المشرق والمغرب تستأثر بالاهتمام الأكبر .

حتى العراقيون بدوا في حالة استرخاء إزاء هذا الحدث الذي يتعلق بهم مباشرة، فلا أحد منهم يرغب بالطبع بوجود قوات أجنبية على أرض الوطن، لكن هناك قدراً غير خاف من التخوف من الفراغ الذي قد تملأه أطراف لا تولي مصلحة العراقيين وحرياتهم وأمنهم كبير اهتمام . يتحدث عراقيون عن أن المظاهر الأمنية الثقيلة التي تركها الأمريكيون مازالت جاثمة، وبالذات الحواجز الأسمنتية في بعض المناطق . هناك ثقة بعديد الجيش العراقي: ربع مليون جندي والشرطة 650 ألف شرطي، لكن قدراً من الشك يتسرب إلى النفوس عن التأثير السياسي الذي مازالت تمارسه بعض القوى النافذة على المؤسسة الأمنية بمختلف مكوناتها، مع الطموح أن يتصدر أمن الوطن والمواطنين عقيدتها الأولى . ومازال الجيش من دون غطاء جوي أو حتى أسلحة دفاعية ناجعة ضد استباحة أجوائه من أي طرف، ومن المفارقة أن الولايات المتحدة نفسها مازالت تماطل في تزويد العراق بمقاتلات جوية متطورة (لأسباب لا يمكن أن تكون بعيدة عن ضمان التفوق الصهيوني)، وليس معلوماً لماذا لا يتم التوجه إلى دول أخرى لسد مثل هذه الحاجة الحيوية .

ولئن كان الوضع الأمني قد تحسّن قليلاً في الأشهر الماضية، فمازال الانسداد السياسي هو سيد الموقف، وهذه مسؤولية العراقيين قبل أي طرف خارجي آخر، فرئيس الحكومة المالكي أقدم على ما يشبه الانقلاب على نتائج الانتخابات وظل مستأثراً بالحكم، حتى إنه يستأثر بنفسه بوزارتي الدفاع والداخلية . ومستوى الفساد في هذا البلد يجعله في نهاية قائمة دول العالم التي تأخذ بالشفافية والنزاهة . ويصعب الحديث عن قضاء مستقل عن السلطة التنفيذية، ولو كان الأمر خلاف ذلك لما تفشى الفساد بهذه الوتائر المهولة، ومعه اقتصاد الجريمة وضعف البنى التحتية .

للرئيس أوباما أن يرى الوضع بمنظور وردي لأغراض انتخابية، علماً أن الانسحاب بحد ذاته إنجاز للعراقيين كما للشعب الأمريكي الذي يتوق إلى عودة أبنائه، غير أنه يصعب القول إن العراق أصبح أكثر أمناً، والعراقيين أكثر حرية . فمازال هذا البلد غير جاذب حتى لأبنائه من ملايين العراقيين الذين دفعوا دفعاً إلى الهجرة من الوطن، فكيف بالآخرين الذين لا يضعون هذا البلد في عداد مَواطن الاستثمار والسياحة والتعليم رغم كل ما يتمتع به من موارد طبيعية وبشرية؟ ولم تتم حتى الآن معالجة العلاقة مع الشمال (إقليم كردستان) بصورة شافية، بما في ذلك تقاسم الثروة الوطنية وتحديد مستقبل مناطق مثل مدينة كركوك . والاستتباب النسبي للأمن في مناطق الشمال لم يمنع التوترات الناجمة عن المواجهات بين حزب العمال والجيش التركي داخل الأراضي العراقية .

وإذا كان فصل الانسحاب العسكري قد أنجز بصورة عامة، فإن الغموض مازال يلف حجم الوجود الأمريكي بعد الانسحاب، والمقصود الخبراء والمدربين العسكريين، وهل سيبقى هذا البلد رهينة لرعاية خارجية وإلى متى؟ ربما كان هذا هو السؤال الأهم، ذلك أنه في الظروف التي عاشها العراق منذ أقل بقليل من تسع سنوات، فإن التصارع على النفوذ في هذا البلد قد ألقى بظلال ثقيلة على أمن المواطنين وأزهق أرواحاً لا تقدر بثمن، وأهدر ثروات طائلة . وفي القناعة أن هذا البلد سوف يتعافى إذا ما نجح أبناؤه في الإعلاء من شأن المصالح الوطنية، ووضعوا حداً لكل تدخل أو نفوذ خارجي أياً كان مصدره، كما هو الحال في سائر الدول الوطنية التي تزهو بسيادتها واستقلالها، من دون أن يؤدي ذلك إلى العزلة عن المحيط القومي والإقليمي، ونسج أفضل العلاقات مع دول وشعوب الجوار .

الترحيب بالانسحاب الأمريكي كخطوة أساسية في استعادة السيادة والاستقلال، لابد أن يترافق ويكتمل برفض أي نفوذ غير متكافئ للدولة العظمى على شؤون هذا البلد ومقدراته بعد الانسحاب . ومن يرحب بهذا الحدث التاريخي ونحن منهم، لابد أن يدعو إلى رفع أيدي سائر الأطراف ووقف مختلف أشكال التدخلات أياً كان مصدرها ولبوسها، والصراحة تقتضي القول إنه لولا توجس العراقيين من اندفاع أطراف خارجية لملء الفراغ، لكانت فرحتهم أكبر وأظهر بخروج القوات الأمريكية التي أزالت نظاماً ديكتاتورياً، لكنها في الوقت نفسه اقترفت خطيئة تفكيك الدولة ودفعت نحو انهيار إداراتها، وأسهمت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في نهب الثروات وتدني الخدمات الأساسية بصورة مريعة .

عسى أن تحسن القوى السياسية المختلفة الإفادة من هذا التطور المتمثل بالانسحاب، وأن تبرهن جميعها عملاً وقولاً على ولاء للوطن لا يتقدم عليه ولاء آخر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"