هولاند والمعركة القادمة

05:33 صباحا
قراءة 4 دقائق

بعد أسابيع من المنافسة الشرسة والمثيرة تمكن المرشح الاشتراكي فرونسوا هولاند من الظفر بكرسي رئاسة الجمهورية الفرنسية، محدثاً وإلى الأبد القطيعة مع سنوات الساركوزية التي مرت متثاقلة وكأنها دامت لعقود طويلة من الزمن؛ فقد أجمع قسم كبير من الفرنسيين على أن الرئيس المنتهية ولايته أساء إساءة بالغة لتقاليد وأخلاقيات الحكم في فرنسا وخدش مشاعر وكبرياء الكثيرين داخل فرنسا وخارجها . وبالرغم من هذا الانتصار الكبير الذي حققه هولاند إلا أن المتتبعين لمسار وأحداث الانتخابات الرئاسية الفرنسية أجمعوا على أن الحسم النهائي تم بصعوبة كبيرة، حيث أبدى ساركوزي استماتة أسطورية في محاولة منه للدفاع عن ما حققه من انجازات خلال سنوات حكمه التي استمرت لخمس سنوات كاملة .

ويجب الاعتراف هنا، أن الانتخابات الرئاسية الفرنسية وبالرغم من أنها تعتبر شأناً أوروبياً خالصاً، إلا أنها كانت محط متابعة واهتمام كبيرين من قبل الجاليات العربية وتحديداً المغاربية في فرنسا، لما تمثله هذه الانتخابات من أهمية حيوية بالنسبة لمستقبل هذه الجاليات؛ خاصة وأن ساركوزي كان يريد أن يُصدر قوانين جديدة ضد المهاجرين في حالة فوزه بعهدة رئاسية ثانية . ولن نفشي سراً إذا أكدنا في هذا السياق أن ساركوزي، خصص حيزاً مهماً من حملته الانتخابية لقضايا الهجرة والمهاجرين ووجه لهم انتقادات لاذعة وصلت أحياناً إلى حد التجريح، واستخدم ما أسماه بملف الهوية الوطنية ليؤلب قسماً من المجتمع الفرنسي ضد الفرنسيين من أصول عربية . كما سبق أن أكد مساعدوه في سياق متصل، أن فرنسا ستعيد النظر في الاتفاقيات التي تربطها بالجزائر، والتي يُمثل جانب كبير منها جزءاً من بنود اتفاقيات إيفيان التي وقعتها الحكومة الجزائرية المؤقتة مع السلطات الفرنسية غداة الإعلان الرسمي عن استقلال الجزائر . وبالتالي فإنه من الضروري أن نشير في هذه العجالة إلى أن الفوز الذي حققه هولاند على خصمه، لم يمنع أقطاب اليمين من توظيف احتفالات أنصاره بساحة الباستيل من أجل الإساءة إلى المهاجرين، حيث عبروا عن انزعاجهم البالغ لقيام بعض الأنصار برفع أعلام أجنبية، وأكد مدير الحملة الانتخابية لزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان عن إدانته لهذا العمل وقال: لقد رأيت الكثير من الأعلام الجزائرية، مما يثبت أن انتشار نزعة الانتماء إلى الجماعة الأصلية داخل المجتمع الفرنسي ليس مسألة خيالية . . . .

وفي السياق نفسه، ونتيجة للتوتر البالغ الذي وصلت إليه العلاقات الفرنسية- الجزائرية في عهد ساركوزي، فإن الجزائريين لم يخفوا سرورهم برحيل هذا الأخير، وعبّروا في مختلف وسائل إعلامهم عن فرحتهم وسعادتهم الغامرة بفوز هولاند، وتصدّر خبر هذا الانتصار صدر صفحات اليوميات الجزائرية . وكان لافتاً أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، سارع إلى إرسال خطاب تهنئة للرئيس المنتخب مباشرة بعد إعلان النتائج الأولية يوم السادس من مايو/ أيار الجاري، وذلك حتى قبل أن تنتهي عملية الفرز النهائي للأصوات عبر كل مكاتب التصويت بمختلف المحافظات الفرنسية .

على أنه ورغم هذا الانتصار التاريخي الذي أعاد الاشتراكيين إلى سدة الحكم بعد غياب طويل، إلا أن صراع هولاند مع اليمين لم ينته، إذ مازال هذا اليمين يمتلك الأغلبية في البرلمان الحالي، ولم تمنعه مرارة هزيمة مرشّحه من التعبير عن تجنده الكامل من أجل المحافظة على أغلبيته البرلمانية خلال الانتخابات التشريعية التي سوف تجري خلال الشهر المقبل . وأكد كل أقطاب اليمين أنه من الخطأ أن يحصل الرئيس المنتخب على أغلبية برلمانية مريحة، تساعده على الانفراد بالسلطة وتمرير كل مشاريعه القانونية، ومن بينها المشروع الذي يقضي بالسماح للمهاجرين بالمشاركة في انتخاب المجالس المحلية على مستوى البلديات التي يقطنون فيها لمدة تتجاوز خمس سنوات . ومن الواضح بناءً على كل ما تقدم، أن هذا الملف سيكون بمثابة حصان طروادة بالنسبة لزعماء اليمين وأقصى اليمين خلال الحملة الانتخابية المقبلة . فقد بدأ حزب الأغلبية الحالية : الاتحاد من أجل حركة شعبية (UMP) الذي كان يتزعمه الرئيس السابق، في رص صفوفه وتجنيد قواعده من أجل منع الاشتراكيين من الحصول على الأغلبية في البرلمان المقبل . ومن الواضح أن أنصار هذا الحزب سيسعون مستقبلاً، إلى عرقلة كل محاولة تهدف إلى تخفيف الضغط والاحتقان الذي يواجه الجاليات العربية وفي مقدمها الجالية الجزائرية؛ خاصة وأن قدماء المعمرين الفرنسيين في الجزائر وكل أبنائهم وأحفادهم، إضافة إلى الحرْكة (وهم الجزائريون الذين تجندوا في صفوف الجيش الفرنسي أثناء الحرب التحريرية)،ينتمون في غالبيتهم الساحقة إلى أحزاب اليمين . وعليه فهم يعارضون كل محاولة تهدف إلى تطبيع الأوضاع وطي صفحة الصراع مع الجزائر وجاليتها المهاجرة في فرنسا .

إن فرنسا مقبلة - في اعتقادنا- خلال الفترة القادمة على تحديات كبرى، تخص مجالات عديدة من بينها ملف العلاقات الفرنسية مع ألمانيا التي كانت تتمنى أن يُعاد انتخاب ساركوزي من أجل الاستمرار في نهج سياسة التقشف والانضباط في الميزانية على مستوى دول الاتحاد الأوروبي؛ بينما سيسعى هولاند خلال المرحلة المقبلة إلى إقناع المستشارة الألمانية انجيلا ميركل بأهمية وضرورة تغيير البوصلة الاقتصادية، واعتماد سياسية قائمة على تشجيع الاستثمار والنمو من أجل التغلب على النتائج السيئة التي تفرزها سياسات التقشف بالنسبة للجبهة الاجتماعية . ويمكن القول أن أهمية الملفات الاقتصادية والسياسية الكبرى التي تتعلق بالشؤون الداخلية لفرنسا، والتي سيُخصصُ لها الفريق الرئاسي الجديد القسم الأكبر من جهده واهتمامه، لن تفضي في نهاية المطاف إلى التخلص من ضغط الملفات المرتبطة بالمهاجرين والعلاقات الثنائية بين فرنسا والجزائر، لأن هذا الملف لا يمثل فقط جزءاً من تاريخ فرنسا، بل هو أيضاً جزء من حاضرها الساخن . إذ نادراً ما نجد شخصية فرنسية بارزة لم يرتبط مسار حياتها، من قريب أو من بعيد، بهذا الملف؛ ذلك أن هولاند نفسه أكد في حوار تلفزيوني، أن والده كان يمينياً ومن أشد المدافعين عن شعار الجزائر الفرنسية، أما هو فقد تأثر بالميول الاشتراكية لوالدته، وقد ساهم ذلك في اقتناعه بأهمية حدث استقلال الجزائر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"