“المتمصرون” وحق العودة

04:12 صباحا
قراءة 4 دقائق

كتبت مقالاً منذ سنوات عدة أدعو فيه كل من خرجوا من مصر في ظل ظروف سياسية غير مواتية لهم أن يعودوا إلى الكنانة إذا رغبوا، وقلت صراحة وبوضوح إنني أدعو المصريين والمتمصرين أي من عاشوا في مصر من قبل وحملوا جنسيتها بالاكتساب من اليهود واليونانيين والأرمن والإيطاليين والشوام وغيرهم للعودة إلى مصر إذا كانوا لا يزالون ملتزمين بالارتباط بأرضها الطيبة وعاشقين لشعبها العريق . فأنا ممن يظنون أنها كانت خطيئة كبيرة أن يخرج هؤلاء جميعاً من مصر في ظل ظروف معينة، خصوصاً أن معظمهم خرج طواعية ولم يكن مكرهاً من جانب السلطات المصرية، كما يتردد كذباً وافتراءً، ولذلك فإنه من الظلم والعبث معاً أن يقال إن عبد الناصر طردهم من مصر، ولكن البيئة السياسية والمناخ العام والظروف التي كانت قائمة هي التي دفعتهم لأن يتركوا طواعية وطناً يحبه معظمهم ويرتبط بترابه ارتباطاً بغير حدود، ومازلت أتذكر وأنا قنصل شاب لمصر في سفارتها بلندن مع مطلع سبعينات القرن الماضي كيف أن كثيراً من الطيور المهاجرة مصرية أو متمصرة كانوا يأتون إلينا وفي عيونهم دموع الشوق للوطن وهم يرددون ذكريات ملتهبة عن حياتهم في مصر وارتباطهم بشعبها، ولقد أحسنت المستشارة الدكتورة نهى الزيني بدراستها الرصينة حول مسألة خروج اليهود من مصر، وهي دراسة جاءت عبر مقالات متتالية في إحدى الصحف لتصدر بعد ذلك في كتاب قيّم أثبتت فيه الدكتورة نهى الزيني أن اليهود لم يخرجوا من مصر مكرهين ولكنهم رأوا أن ظروف البلاد في مراحل التمصير الوطني والتحول الاجتماعي والمد القومي لم تعد تناسبهم، خصوصاً مع تصاعد حدة العداء تجاه الدولة العبرية، ولم يكن ذلك خروجهم الأول من مصر فهناك خروجهم الذي احتوته أسفار العهد القديم وتحدثت عنه كتب التاريخ الفرعوني، ولقد استيقظت لديّ هذه الأفكار مرة أخرى وأنا أقرأ عن تصريح القطب الإخواني الدكتور عصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة والمتحدث باسم الأغلبية في مجلس الشورى حالياً الذي يدعو فيه اليهود فقط دون غيرهم وبشكل محدد بين أولئك الذين خرجوا من مصر في العصر الناصري إلى العودة إليها، ولا أعرف لماذا اختصهم بذلك وهناك غيرهم ممن تنطبق عليهم دوافع الخروج واحتمالات العودة، ولا أظن أن تحديد الدكتور العريان لليهود فقط ينطوي على مغزى سياسي يحمل في طياته غزلاً لإسرائيل فذلك آخر ما أتصوره عنه أو أتوقعه من جماعة الإخوان المسلمين، ولقد استقبلت الدوائر الإقليمية والعالمية هذا التصريح بردود فعل متفاوتة، فاستهجنته كثير من الدوائر العربية والإسلامية بينما رحبت به دوائر أخرى غربية ويهودية، وقد يكون الاقتراح صادمًا للبعض ولكنني أرى في الدعوة الشاملة للذين تركوا مصر من مختلف الأصول والأعراق شريطة أن يكون ولاؤهم للوطن المصري واضحاً وصريحاً دعوةً مقبولة دينياً، جذابة دوليًا، مثيرة إقليمياً خصوصاً أن دار الإسلام تحتوي أهل الكتاب بلا تفرقة لأنهم شركاء في الحضارة العربية الإسلامية بغير جدال، ويجب ألا ننسى أن في القاهرة عاصمة الأزهر الشريف والكنيسة القبطية ما يقرب من ثمانية معابد يهودية، ولعلنا نتذكر أن قطاوي باشا وزير المالية في عشرينات القرن الماضي كان يهودياً مصرياً وأن حاخام اليهود كان عضواً في اللجنة التي وضعت دستور ،1923 ولا ننسى أيضاً أن أول رئيس وزراء مصري كان أرمنياً، وأن كثيراً من جوانب الحياة المصرية المتقدمة قد ارتبطت بتلك الأصول المتمصرة لأولئك الذين عاشوا على أرض الكنانة، خصوصاً في القرنين الماضيين، ونتذكر أسماء تبدأ من ابن ميمون وتمر بداود حسني وزكي مراد حتى تصل إلى عائلات مثل تقلا مؤسس الأهرام وجورجي زيدان مؤسس دار الهلال، كما لا ننسى أن الصحافة والمسرح والسينما وألوان الفن وفروع الأدب كانت مطعمة كلها بأسماء يهودية وشامية وإيطالية وأرمنية ويونانية، فمصر بوتقة تنصهر فيها كل الأعراق ثم تتحول إلى سبيكة متجانسة فيها حلاوة طعم مصر ونقاء شعبها، ولنا في هذا المقام عدد من الملاحظات نوجزها في ما يلي:

أولاً: إن الاحترازات السياسية والأمنية مطلوبة من خلال الفرز الوطني النظيف للراغبين في العودة إلى أحضان الوطن بذكرياته وآماله وأحلامه حتى لا تتسرب إليه عناصر معادية له .

ثانياً: إن احتمال إثارة بعض العائدين لقضايا تعويضات هي نزاعٌ فردي بين أفراد باعوا وآخرين اشتروا حتى ولو لم يكن الثمن عادلاً بسبب ظروف الخروج السريع، ثم إن الحديث عن التعويضات يفتح على إسرائيل التي احتلت سيناء كاملةً لأكثر من عقدٍ كامل باباً آخر للتعويضات عن النفط الذي ضخته، والآثار التي سرقها وزير دفاعها موشى ديان الذي كان مهووساً بالتراث المصري القديم، فضلاً عن خسائر السياحة، وذلك كله قبل أن نفتح ملف قتل إسرائيل للأسرى المصريين ضد قوانين الحرب وأعراف البشرية عبر التاريخ كله .

ثالثاً: إن ظروف مصر الحالية تدعم الحاجة إلى التعددية الثقافية للارتقاء بالبلاد ورفع مستوى سكانها وخلق روحٍ تنافسية يفيد فيها المصريون من تجارب القادمين من أعراقٍ مختلفة وأصولٍ متعددة ولكنهم ذابوا في شخصية مصر واندمجوا في شعبها الفريد .

إن رحابة المحروسة وتقاليد أم الدنيا تتسق مع عودة من أحبوها وعاشوا على أرضها ويقبلون بقواعد الشراكة الوطنية بكل صدقٍ وإخلاص، كما يجب أن ندرك أن أي مشروعٍ للنهوض بمصر يحتاج إلى تطعيمٍ من عناصر متعددة الخلفيات وقادمة من مختلف الجنسيات، ولعلنا نعترف بأن الطفرات الكبرى في تاريخ مصر الحديثة ارتبطت بأشعة التنوير القادمة من خارجها ورسائل النهضة الوافدة إليها، فهي مصر درة الزمان وجوهرة المكان وحاضنة السكان .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"