2011 عام الكرامة الانسانية

04:31 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسناً فعلت مجلة تايم الأمريكية عندما اختارت البروتستر شخصية العام 2011 انطلاقاً من الشهيد محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجاً على امتهان كرامته من قبل الشرطة التي صادرت عربة الخضار التي كان يعتاش منها وعائلته . وقالت أخته ذات الستة عشر ربيعاً إن الكرامة أهم من الخبز . وفي غالب الظن لم يكن البوعزيزي يدرك حجم الأصداء التي ستتركها فعلته ليس في تونس فحسب، ولكن في أرجاء المعمورة الأربعة، ولزمن لا شك سيكون طويلاً .

والبروتستر تعني لغوياً المحتج، وتقصد بها مجلة تايم المتظاهر من تونس إلى وول ستريت الذي يعبر عن احتجاجه على ما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بسبب جشع التجار والرأسماليين والمضاربين في البورصة . أي بكلمة أخرى، فإن شخصية العام بالنسبة إلى المجلة هي المتظاهر احتجاجاً على امتهان كرامته الإنسانية ومطالبةً باسترداد هذه الكرامة المسلوبة .

والحقيقة، أنه ليست المرة الأولى في التاريخ، لاسيما المعاصر منه، التي تنجح فيها التظاهرات الشعبية في إحداث تغييرات كبرى تترك آثاراً ممتدة . ففي ستينات القرن الماضي نجحت الاحتجاجات الشعبية في الولايات المتحدة في إجبار الحكومة على إقرار الحقوق الفردية التي كان يطالب بها المحتجون لاسيما من ذوي البشرة السمراء . وفي سبعينات القرن العشرين نفسه نجحت الاحتجاجات الشعبية العارمة في إجبار الحكومة الأمريكية على إنهاء الحرب الفيتنامية، كما نجحت الثورات الشعبية في تغيير النظامين البرتغالي والإيراني . وفي الثمانينات تمكنت الاحتجاجات الشعبية في أوروبا من إعاقة مشاريع نووية عديدة منها نشر أسلحة نووية أمريكية في القارة الأوروبية . لكن في المقابل ينبغي التذكير بأن كل المظاهرات المليونية في إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا في أوائل العام ،2003 لم تردع رؤساء الوزراء في هذه الدول عن المشاركة في الغزو العسكري الأمريكي للعراق .

العام 2011 كان مختلفاً جدا، أهميته ليس فقط في سقوط ديكتاتوريات مترسخة منذ عقود طويلة تحت صرخات شعوب كان المراقبون قد أجمعوا أنها تغرق في سبات عميق لن تستيقظ منه، ولكن في التأسيس لمفاهيم جديدة تطاول كل العلاقات السياسية كما درسناها في الجامعات إلى اليوم .

هذا العام كان تاريخياً بامتياز، لأنه أطلق حركة لن تهدأ في الأفق المنظور، ولأنه أدخل لاعبين جدداً في صلب العلاقات الدولية لن يكون ممكناً تجاوزهم: المدوّنون، الناشطون السياسيون والاجتماعيون، المجتمع المدني، الفضائيات، تكنولوجيا ووسائل الاتصال الرقمية الحديثة .

لقد انتشرت الظاهرة الشعبية الاحتجاجية مثل النار في الهشيم من تونس إلى مصر، ثم بقية دول العالم العربي لتطاول أوروبا والولايات المتحدة وروسيا والبرازيل وحتى الصين وإسرائيل وغيرها . وإذا كانت قد نجحت في إسقاط الديكتاتوريات التونسية والمصرية والليبية واليمنية حتى الآن، فإنها أيضاً نجحت في إسقاط خمسة رؤساء وزراء في أوروبا أجبروا على الاستقالة تحت وطأة التظاهرات والحركات الاحتجاجية الشعبية (اليونان، إيطاليا، إسبانيا، إيرلندا والنرويج) .

والحراك الشعبي تخطّى الاقتراع العام الذي هو من أبرز سمات الديمقراطية، ففي الدول الخمس المذكورة لم تنتظر الشعوب الاستحقاقات الانتخابية لكي تعاقب حكامها على الأزمة المالية التي أخفقوا في التصدي لها، بل نفذت فيهم أحكاماً فورية بالإقالة . وفي الأشهر المقبلة ثمة استحقاقات انتخابية في فرنسا وروسيا والولايات المتحدة . ففي فرنسا تراجعت شعبية الرئيس ساركوزي بطريقة دراماتيكية، ما دفعه إلى تأييد الثورات الديمقراطية العربية والتناغم مع أصوات الشارع الفرنسي أملاً في استرداد حيز من الشعبية المفقودة، وفي روسيا قد يضطر الرئيس بوتين إلى العزوف عن الترشّح للانتخابات الرئاسية إذا استمرت المظاهرات والاحتجاجات الشعبية ضده . هذا رغم فوز حزبه في الانتخابات التشريعية الأخيرة وبأغلبية مريحة في الدوما . وفي الولايات المتحدة يبدو الرئيس متناغماً مع حركات الاحتجاج ضد وول ستريت، كما هو مع الثورات العربية، ما قد يسهم في استمرار إقامته في البيت الأبيض .

لقد أضحت الجماهير فاعلاً سياسياً مباشراً وليس فقط في الأوقات الإنتخابية، كما أضحى المدوّنون والناشطون والمستخدمون لوسائل الاتصال الحديثة لاعبين مؤثرين في العلاقة التي تغيرت بين الحكام والمحكومين . وأضحت الكرامة الإنسانية العنصر الأساس الذي ينبغي أن يحكم هذه العلاقة، وبات قياس الكرامة ممكناً والشعب هو من يقرر ما إذا كانت كرامته مصانة أو مهانة . وسوف تنكبّ مراكز الأبحاث على دراسة هذا المفهوم الجديد ل (الشعب) الذي يتم تداوله منذ عصور من دون تحديد أو تعريف واضح .

وهكذا يكون العام 2011 عاماً مؤسساً لعصر جديد، ولو أننا سنحتاج إلى مرحلة انتقالية طويلة قبل أن نفهم تماماً ما أسسه لنا هذا العام المجيد .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"