«السترات الصفراء» تتحدى «حوار» ماكرون

05:05 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور*

بالرغم من الدعوات المتكررة، التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «للحوار الوطني الكبير» - كما أسماه - فإن حركة «السترات الصفراء» قد أصرت على مواصلة تظاهراتها الأسبوعية للسبت العاشر على التوالي.
اللافت للنظر أنه إذا كان زخم هذه التظاهرات قد خفّ بصورة ملحوظة في فترة أعياد الميلاد ورأس السنة، وانخفض عدد المشاركين إلى (50 ألفاً) فإن الزخم عاد للتصاعد من جديد، ليصل عدد المشاركين في التظاهرات إلى (84 ألفاً) يوم السبت التاسع لانطلاقها (12 يناير/‏كانون الثاني) وإلى العدد نفسه (84 ألفاً) يوم السبت العاشر (19 يناير الجاري) بالرغم من البرد القارس، وتزايد شدة إجراءات قوات الأمن لتفريق المتظاهرين.
واللافت للنظر أيضا أنه إذا كانت الإجراءات الأمنية قد نجحت في منع دخول المتظاهرين إلى شارع الشانزليزيه، الأشهر في فرنسا كلها، كما تراجع عدد المتظاهرين نسبياً في باريس، من (8 آلاف) يوم السبت التاسع إلى (7 آلاف) يوم السبت العاشر، إلا أن نطاق التظاهرات يتسع ليشمل مدناً جديدة، وحشوداً أكبر في بعض المدن الإقليمية (10 آلاف متظاهر في مدينة تولوز مثلا).
ويلفت النظر بصورة أكبر أن عدد المتظاهرين مستمر في التزايد، بالرغم من طرح ماكرون مبادرته الخاصة «بالحوار الوطني الكبير»، والبدء بهذا الحوار فعلاً يوم (15 يناير) الجاري، باجتماع موسع بين ماكرون ونحو (600) من رؤساء البلديات في منطقة غربي فرنسا، وهو الحوار المقرر له أن يستمر لمدة شهرين، وأن يشمل كل أطياف المجتمع الفرنسي، حسب دعوة ماكرون.
وقد حدد الرئيس الفرنسي أربعة محاور رئيسية «للحوار»، هي: القدرة الشرائية (للمواطنين) وكيفية الحفاظ عليها وتعظيمها، والضرائب، والديمقراطية، وحماية وتحسين البيئة.
وأكد أنه منفتح على كل الأفكار والاقتراحات، التي سيتم طرحها، وأن الحكومة لا تخشى مناقشة أية قضية، وأن الحوار هو الطريق الأمثل لتحويل الغضب إلى وسيلة للبحث عن حلول للمشاكل التي تواجه فرنسا.
ويشير هذا كله إلى حقيقة أن ماكرون (وحكومته) قد استوعبا حقيقة أن الغضب الشعبي له جذور أعمق من مسألة الضرائب، التي كانت السبب المباشر في إشعال فتيل حركة - «السترات الصفراء» - زيادة الضرائب على وقود السيارات تحديدا - أو حتى من قضية التراجع المستمر في القدرة الشرائية للفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة (لاحظ تبني ماكرون لصياغة السترات الصفراء فيما يتصل بقضية الحفاظ على القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والفقيرة)، بل إن الأمر يصل إلى حالة سخط اجتماعي شامل وعميق، وشعور عام لدى الأغلبية بأن البلاد تدار لصالح القلة الثرية، دون مبالاة بمصالح الأغلبية الشعبية.
إلا أن ماكرون يظل بالطبع، الابن الوفي لطبقته الاجتماعية، مخلصا لأفكاره السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأصلية، التي أتت به إلى سدة الرئاسة الفرنسية، لذلك فإنه حينما قدم حزمة الإصلاحات الضريبية المحدودة، في أعقاب اشتعال حركة «السترات الصفراء»، حرص مثلا على التأكيد على أنه لا مساس بقرار الإعفاء من «ضريبة الثروة»، الذي كان أحد القرارات التي أثارت غضب أغلبية الفرنسيين، كما أنه لا يكف عن الدفاع عن برنامجه الانتخابي - الذي أثارت نتائج تطبيقه كل ذلك الغضب الشعبي! ويحاول في الوقت نفسه الوصول - من خلال «الحوار الوطني الكبير» إلى قواسم مشتركة مع معارضيه بتقديم الحد الأدنى من التنازلات، وهي سياسة تثير الكثير من الشكوك، حينما يكون الانقسام الاجتماعي والسياسي قد وصلا إلى درجة مثل تلك التي نراها في فرنسا هذه الأيام.
ويلوم ماكرون مثلاً ذوي «السترات الصفراء» وغيرهم من الذين يعتقدون أن «العدالة الاجتماعية» تعني التقارب في الدخول، والتزام الدولة بتقديم الخدمات الاجتماعية (ما يسمى بدولة الرخاء الاجتماعي) وتوزيع الأعباء حسب الثروة.... إلخ، ويقول لهم إن العدالة الاجتماعية تعني «تساوي الفرص» في امتلاك الاستثمارات وتأسيس المشروعات!! ولا شك أن مثل هذه المفاهيم حول (تكافؤ الفرص) تهم الأثرياء وشديدي الطموح، وليس الجمهور العادي في بلد تزيد نسبة البطالة فيه على (12%)، وأكبر هم الأغلبية فيه هو عدم فقدان العمل، أو العثور على عمل، شأن الفقراء والكادحين في كل مكان.
لذلك كله فإن برنامج ماكرون للحوار يبدو مغلفاً بالضباب، كما أن وعوده المتكررة (بالالتزام بمخرجات الحوار الوطني الكبير) تبدو محاطة بالشكوك، ولذلك أيضا فإن بعض الأحزاب السياسية ترفض المشاركة في «الحوار»، أما «السترات الصفراء» المعروفة بتعدد انتماءاتها الفكرية والسياسية فترفض أغلبيتها الساحقة فكرة الحوار مع ماكرون، سواء بشكل مباشر أو عبر رؤساء البلديات. وتصر على تسميته «برئيس الأثرياء» و«الديكتاتور»، وعلى أن الحوار معه ومع حكومته يجب أن يكون عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وعبر الضغط السياسي والجماهيري، ثم الاستفتاءات حول ما يتم التوصل إلى أنه رأي الأغلبية (أو ما يسمونه في الديمقراطية التشاركية في مواجهة الديمقراطية التمثيلية)، حيث يتمتع حزب ماكرون بأغلبية كبيرة في البرلمان، ويتمتع هو - كرئيس للجمهورية - بسلطات واسعة للغاية، وهذه أيضا إحدى نقاط سخط «السترات الصفراء» وحدهم، فقد أشار استطلاع للرأي نشرت نتائجه (فرانس 24) 19 يناير/‏كانون الثاني 2019) إلى أن (64%) من الفرنسيين أعربوا عن تشككهم في جدية «الحوار»، أو التزام ماكرون نتائجه (حوالي الثلثين)، بينما أعرب (29%) فقط عن رغبتهم في المشاركة بالحوار (أقل من الثلث)، كما أن «السترات الصفراء» تحظى بتأييد أكثر من (55%) من الفرنسيين، وكان الدعم يصل إلى حوالي الثلثين، لكن الميل للعنف أبعد نسبة لا يستهان بها، إلا أن عودة «السترات» إلى سلوك أكثر انضباطاً يمكن أن يكسبهم تأييدا أكبر.
وإذا وضعنا في اعتبارنا كل هذه الحقائق فإن الأرجح أن تستمر تحركات «السترات الصفراء»، خاصة أن عمق الانقسام الاجتماعي، قد أصبح أكبر من معالجته بمسكنات أو وعود مراوغة.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"