«القيصر» باقٍ في الكرملين

01:17 صباحا
قراءة 5 دقائق

د. نورهان الشيخ *

في الرابع عشر من مارس / آذار الجاري وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مشروع قانون حول التعديلات الدستورية، وأحاله للمحكمة الدستورية لدراسته وتحديد مدى توافقه مع الدستور الروسي، وذلك بعد أن صادق عليه البرلمان بمجلسيه (الدوما والاتحاد) في ال 11 من مارس، ووافقت عليه المجالس التشريعية في الأقاليم الروسية.
في حال المصادقة على التشريع يتوقع أن يجري في روسيا استفتاء شعبي عام حول التعديلات المقترحة في ال 22 إبريل / نيسان.المقبل ويتضمن مشروع القانون مدى واسعاً من التعديلات، منها إعادة توزيع الصلاحيات بين الرئيس ورئيس الوزراء والبرلمان، وتشكيل هيئة حكومة جديدة يطلق عليها اسم «مجلس الدولة»، وكذلك إدراج ذكر «الرب» في الدستور، وإعطاء الأطفال الأولوية في سياسة الدولة، وإقرار صفة روسيا بصفتها وريثة للاتحاد السوفييتي في الاتفاقات والمنظمات الدولية. إلا أن أبرز وأهم هذه التعديلات هي تلك المتعلقة بتصفير عداد الولايات الرئاسية، وهو ما يسمح للرئيس فلاديمير بوتين، بالترشح من جديد عقب انتهاء مدة ولايته الحالية عام 2024، كما يمكنه من أن يصبح عضواً في مجلس الشيوخ مدى الحياة عند تركه الرئاسة.


تمرير التعديلات


يدفع الرئيس بوتين بقوة لتمرير التعديلات، ودعا رؤساء الكتل البرلمانية في مجلس الدوما، خلال اجتماع معهم في ال 5 من مارس في الكرملين إلى تأييد التعديلات الدستورية، واعتبرها مطلوبة وضرورية في ضوء «تغير الوضع في البلاد بشكل جذري»، وأن هناك «حاجة إلى ضمان استحالة التراجع إلى الوراء وعدم السماح بزعزعة استقرار البلاد». وأكد في كلمته أمام مجلس الدوما في ال 10 من مارس أن روسيا بحاجة إلى رئاسة قوية، وأن ذلك يعتبر ضرورة ملحة لضمان الاستقرار وفي ضوء التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجهها البلاد.
في هذا السياق، غازلت التعديلات كل القوى المؤثرة في المجتمع الروسي، فقد تضمنت توسيع صلاحيات مجلسي الدوما والاتحاد، كما عززت من دور الكنيسة بالإشارة إلى «الرب» في مقدمة الدستور، وما يحمله ذلك من تأكيد لمحورية دور الدين مع الاحتفاظ بمبدأ الدولة العلمانية بلا تغيير، وذلك استجابة لمقترح البطريرك كيريل، بطريرك موسكو وسائر روسيا، الذي برر مقترحه بأن معظم الروس يؤمنون بالله، وأنه لا يتحدث فقط عن الأرثوذكس، بل عن المسلمين وغيرهم. والأهم هو ضمان التأييد الشعبي لها من خلال ما تضمنته التعديلات من النص على ضمان التدابير اللازمة في مجال الدعم الاجتماعي على النحو الذي يرتقي بالحد الأدنى للأجور وبالمعاشات التقاعدية والاستحقاقات والمزايا الاجتماعية الأخرى في ضوء نسب التضخم، وأن يكون نظام التقاعد على أساس مبادئ العالمية والعدالة وتضامن الأجيال.
ويمكن تفسير الإطاحة برئيس الوزراء ديمتري ميديفيديف، بعد فشله في إدارة الملفين الاجتماعي والاقتصادي، وتراجع شعبيته بشكل حاد، والتي جاءت متزامنة مع بدء إجراءات التعديلات الدستورية، في إطار محاولات الرئيس بوتين للحفاظ على شعبيته، وضمان التأييد له لدى القطاع الأوسع من المواطنين الروس الذين أنهكهم التضخم وضغط المتطلبات اليومية لهم ولأسرهم.
في المقابل تحاول المعارضة، بقيادة الليبرالي أليكسي نافالني وغيره، إثارة حراك شعبي مضاد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة في أوساط الشباب، للتصويت ب«لا»، وليس فقط مقاطعة الاستفتاء، ونددت بالتعديلات خاصة ما يتعلق بمد ولاية بوتين، معتبرة أنها محاولة لجعل بوتين «رئيساً مدى الحياة». وقامت المعارضة بتنظيم تظاهرة في ال 29 من فبراير شارك فيها نحو 20 ألف شخص، وفق وسائل الإعلام الغربية، لمطالبة بوتين بعدم التمسك بالسلطة. كما أن امتناع كتلة الحزب الشيوعي (43 عضواً) عن التصويت فسره البعض بأنه معارضة صامتة أو غير معلنة للتعديلات.


استفتاء ال 22 من إبريل


في ضوء هذا الحراك يتجه الاستفتاء المزمع عقده في ال 22 من إبريل إلى أن يكون استفتاء حول استمرار الرئيس بوتين في السلطة من عدمه. ويعول الأخير على كبار السن والمتقاعدين الذين يميلون إلى الاستقرار، وخاضوا التجربة العاصفة بأحوالهم المعيشية وأمنهم خلال التسعينيات تحت شعار الليبرالية والديمقراطية، ومن المعروف أن هؤلاء يمثلون أغلبية المجتمع الروسي، كما يعول على دور الدين بعد الاعتراف به في الدستور من خلال رؤساء الطوائف الدينية المختلفة، وما يمكن أن تقدمه الكنيسة والمفتون وغيرهم من دعم. يضاف إلى ذلك دعم النخبة بجناحيها الاقتصادي والسياسي التي ارتبطت به وتدين له بالولاء، ويرتبط مستقبلها السياسي باستمراره في السلطة على المستوى الفيدرالي، وكذلك في الأقاليم الروسية المختلفة.
على صعيد آخر، تحمل التعديلات دلالة مهمة في ما يتعلق بوضع روسيا الدولي وعلاقاتها بالغرب. فقد سبق أن توارى بوتين عن سدة الحكم عام 2008، تاركاً منصب الرئيس لصديقه ديمتري ميديفيديف، الأكثر قبولاً في الغرب، وأشار بوتين آنذاك إلى أنه لا يجوز تعديل دستور البلاد لمصلحة شخص، رافضاً تعديل الدستور للسماح له بالاستمرار في الرئاسة. إلا أن عاملاً آخر كان وراء ذلك، وهو عدم الرغبة أو ربما الاستعداد لفتح جبهة مواجهة مع الغرب، وإتاحة المجال لانتقادات غربية عامة وأمريكية خاصة قد تفضي إلى إجراءات أكثر تشدداً في مواجهة روسيا، في وقت لم تكن الأخيرة قد تعافت تماماً بعد من تداعيات حقبة التسعينيات. وكانت عودة بوتين للرئاسة عام 2012 بمنزلة معركة سياسية بأبعاد خارجية واضحة، وأدارها بوتين بجدارة، وسانده ميديفيديف، ليوجها معاً صفعة للغرب الذي عول على الأخير وإمكانية خوضه كمنافس لبوتين.


تداعيات كورونا


يبدو المشهد الدولي وتوازنات القوى به مختلفة كثيراً عما كانت عليه منذ عقد مضى، فقد استعادت روسيا كامل قوتها ومكانتها كقوة كبرى، واستطاعت صياغة تفاهمات مهمة تحكمها قاعدة مصالح قوية مع مراكز صنع القرار في ألمانيا وفرنسا والبيت الأبيض، ولا يبدو أي من هؤلاء في وضع يسمح له بقيادة حملة دولية ضد التعديلات الدستورية لبوتين، ولا سيما مع تداعيات أزمة كورونا التي أدت إلى سيل من الانتقادات لهذه النظم وإدارتها للأزمة، وما تنطوي عليه من تهديد لأمن وحياة المواطنين من ناحية، ولأوضاعهم الاقتصادية والمعيشية مع تراجع أسواق الأسهم والبورصات من ناحية أخرى. وعلى الرغم من أن روسيا تضررت كثيراً مع التراجع الحاد في أسعار النفط على خلفية تراجع الطلب الدولي بسبب أزمة كورونا وخروج السعودية من اتفاق خفض الإنتاج مع روسيا، فإنها تبدو متماسكة وقادرة على تجاوز الأزمة، بل إن المخاطر التي ينطوي عليها ذلك كانت أحد أهم مبررات بوتين لدعم التعديلات الدستورية والحفاظ على نظام رئاسي قوي قادر على مواجهة التهديدات والاستمرار في دفع التنمية والارتقاء بمستويات معيشة المواطنين، وسط أجواء اقتصادية دولية تتجه إلى التأزم.
على الرغم من ذلك يظل استمرار بوتين في السلطة لما بعد 2024 أمراً محتملاً، ففي عالم اليوم لا يوجد ما هو حتمي أو مؤكد، كما يظل ذلك رهناً بإرادة الشعب الروسي ومدى ما سيقدمه الرئيس بوتين له، وحجم إنجازاته الاقتصادية والاجتماعية خلال السنوات القادمة.

* باحثة وأكاديمية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"