«الناتو».. انقسام أوروبي

03:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
بهاء محمود

منذ تولى ماكرون رئاسة فرنسا، والجدل يثار من حين لآخر حول منظومة الدفاع الأوروبي. تارة يكثر الحديث عن جيش أوروبي موحد، وتارة عن اتفاقيات ثنائية لوحدات دفاعية، ثم ينتهي الكلام دون شيء.
تزامناً مع الهجمات التركية على الأراضي السورية، أطلق ماكرون تصريحات ثلاثية الاتجاهات، واصفاً حال حلف الناتو في حالة «موت سريري»، منتقداً طبيعة التنسيق بين ترامب والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن النهج الفردي لتركيا، الدولة العضو في حلف الناتو. تصريحات ماكرون لم تلق قبولاً في الأوساط الأوروبية، وفي حلف الناتو وقيادته. يبدأ الجدل من زاوية توقيت التصريحات، لاسيما أنها جاءت بعد اعتراض أوروبي على الهجمات التركية، ثم لقاء أردوغان وترامب، والذي بدا بينهما تفاهمات واضحة.

ضبابية الرؤية

في نوفمبر 2018، دعا ماكرون إلى إنشاء «جيش أوروبي حقيقي»، ولاحق دعوته إقرار من ميركل، التي دعت إلى جيش أوروبي يكمل حلف الناتو. بعد فترة وجيزة، انصب الجدل حول الاختيار بين تسميتها «جيش أوروبي» أو «جيش الأوروبيين»، وبعد عام تحوّل الحديث إلى نقاش أوروبي آخر حول «الأمن التعاوني». هذا في الوقت الذي تنتشر القواعد العسكرية الأمريكية في أكثر من 6 دول من الاتحاد الأوروبي، وليس هناك دليل عن ضبابية المشهد في أوروبا حيال حلف الناتو من خلال الدراسة التي أجرتها مؤسسة «بيو» في فبراير 2019، بين عامي 2013 و2018، حول تهديدات النفوذ الأمريكي في أوروبا، حيث صرح أكثر من 30% في ألمانيا، باعتبار النفوذ الأمريكي تهديدًا لبلادهم. كما رأى 29%من الفرنسيين ذلك، فيما تنخفض النسبة إلى 15% في المملكة المتحدة، و12 % في إيطاليا.

سيطرة الهواجس الألمانية

منذ جاء ماكرون حاملاً أجندة إصلاحية للاتحاد الأوروبي، وهاجس القيادة الأوروبية مسيطر على فكره، فغير خفي الاختلاف مع المحور الألماني تاريخياً وحتى بعد توليه، فالرجل طرح أجندة لم يتوافق على بنودها أحد. في حين لاقى طرحه للجيش الأوروبي بعض الاستحسان من جانب المستشارة ميركل، عقب أزمة التصريحات المتبادلة مع الرئيس الأمريكي في 2017. سرعان ما هدأت الأمور وصارت فكرة الجيش الأوروبي الموحد طي النسيان، في الوقت الذي لا يمل ترامب من تهديداته بسحب قواته من ألمانيا أو ترك أوروبا تحمي نفسها لطالما لا تستجيب أوروبا لزيادة إنفاقها العسكري. من جانبها لم تستجب ألمانيا لرغبات ترامب، كما أنها لم تساير ماكرون فيما يريد، فقط اتفاقيات ثنائية لتعزيز التعاون الدفاعي لا تتخطى حيز الحبر المكتوب.
ألمانيا ما زالت لديها هواجس النازية والتحول لمهام عسكرية خارجية ربما محفوف بالمخاطر، لذلك تكتفي بمهام صغيرة، ضمن حلف الناتو وقوات حفظ السلام في العراق والسودان وأفغانستان، وغيرها من العمليات البسيطة ومنها بالطبع سوريا، التي لا تتخطى القوات الألمانية فيها 200 جندي.

الرفض البريطاني الدائم

من جانبها ترفض دائماً بريطانيا، قبل وبعد بريكست، المساس بحلف الناتو، رغم التعاون الفرنسي البريطاني الواضح في ليبيا وغيرها من العمليات العسكرية الكبرى. لكن بريطانيا صوت أمريكا الدائم في الاتحاد الأوروبي تبني موقفها على عدة خلفيات، أولاها مدى تعارض قوتها وأهدافها الخارجية مع أطروحات الجيش الأوروبي الموحد، كون ذلك لا يتناسب مع موقفها من جعل الاتحاد الأوروبي سوقاً تجارية فقط لا تتخطى التعاون الاقتصادي. فيما يمثل حلف الناتو بالنسبة لها مظلة كافية كونها تضم عدداً كبيراً من الدول الأوروبية، بالإضافة للولايات المتحدة وتركيا. على النقيض، فرنسا القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي، حال رحلت بريطانيا، فالزعامة لفرنسا عسكرياً، في ظل الضعف العسكري الألماني.

المحور الألماني- الفرنسي

الخلاف الفرنسي- الألماني حول الناتو، ليس وحيداً، فبجواره معارضة من دول شرق أوروبا التي ترفض بناء سياسة دفاعية، تنافس حلف الناتو. في مقدمة دول شرق أوروبا تأتي بولندا والتي لا تربطها علاقات طيبة مع ألمانيا، كما لا تفضل أن يكون هناك محور ألماني- فرنسي يقود السياسات الدفاعية. كما لا يخفى على أحد طبيعة القوات الأمريكية الموجودة في بولندا، وسرعة استجابة بولندا لرغبة ترامب في زيادة الإنفاق العسكري بنسبة الناتج المحلي الإجمالي. بولندا ليست الوحيدة من شرق أوروبا التي ترفض الجدل حول الناتو، ففي خطابها الختامي أمام مؤتمر الدفاع الأوروبي، قالت رئيسة لاتفيا السابقة فيرا فيكي فريبيرغا، التي أشرفت على انضمام بلادها إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو: «إننا غير مرتاحين عندما يتم إخبارنا بأن فرنسا وألمانيا ستكفلان الدفاع عن أوروبا. لدينا انطباع بأن الدول الكبرى ستقرر لبقيتنا وعلينا اتباعها. مازال أمام الفرنسيين الكثير من العمل للقيام به من أجل قبول أفكارهم من قبل شركائهم». هذه التصريحات من مسؤول سابق في دول شرق أوروبا لا تعبر فقط عن رفض تصريحات ماكرون بقدر تعبر عن عقيدة تلك الدول تجاه المحور الألماني الفرنسي. وإذا كان هذا موقف دولة ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي وليست بنفس وزن بولندا فكيف يكون موقف بقية الدول؟ الإجابة تأتي من لتوانيا، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، والتي أبدى رئيسها- جيتاناس ناوسيدا- عدم رضاه عن تصريحات ماكرون، قائلا: «لا أستطيع القول إن هذا التصريح جعلنا سعداء. ومرد موقف دول شرق أوروبا عامة هو إيمانها بأن الولايات المتحدة الأمريكية، هي الضامن الوحيد لأمنها في مواجهة التهديدات الروسية».

المصالح الفرنسية مع «الناتو»

فرنسا حال خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سوف تصبح القوة النووية الوحيدة، وكذلك صوت الاتحاد الأوروبي الوحيد في مجلس الأمن. بل سوف تصبح هي الدولة ذات القوة العسكرية الأكبر خارج نطاق الاتحاد الأوروبي. فليس لألمانيا حتى الآن أطماع تضاهي أطماع فرنسا في إفريقيا، أو غيرها من أحلام ماكرون الإمبراطورية. الدول المؤهلة لمنافسة فرنسا من حلف الناتو، واقعياً هي الولايات المتحدة الأمريكية، وتركيا، وبريطانيا، والأخيرة تحديداً مشغولة بمعضلة بريكست في الوقت الحالي، ولا توجد ملامح لأجندة خارجية قريباً.
لذلك لا تبدو تصريحات ماكرون خارج سياق الحلم المرفوض أوروبياً ودولياً. كما يؤخذ في الحسبان تكرار تصريحات ماكرون حول الناتو غير مبررة في الغالب. فالناتو هو من سمح لفرنسا بضرب ليبيا، منذ سنوات، وهو من بارك ويبارك نفوذها حتى الآن. وبالتالي لا تأتي تصريحات ماكرون وسط حدوث تحول مفاجئ في المواقف الأوروبية. من هنا يمكن القول إن الجدل الأوروبي مستمر تجاه الناتو مع استمرار الحاجة لبقائه، في ظل صعوبة القبول بوجود مشروع آخر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"