«باليرمو».. والأزمة الليبية المستعصية

02:40 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

قمة باليرمو حول الأزمة الليبية (12 - 13 نوفمبر/تشرين الثاني).. حدث سياسي مهم سيكون له ما بعده في مسار معالجة هذه الأزمة، ولا نبالغ إذا قلنا: إن القمة التي شهدتها مدينة باليرمو الإيطالية الصغيرة هي أول خطوة جدية على طريق طويل وشاق للغاية نحو إنهاء النزاعات المسلحة المتشابكة ومتعددة الأطراف في ليبيا، والتوجه نحو لملمة شظايا (الدولة) التي لم تسقط فحسب بسقوط نظام القذافي (2011) بل انفجرت وتمزقت أشلاء، وأصبحت أراضيها الشاسعة (مليون وسبعمئة وستون ألف كم2) مرتعاً للإرهاب الدولي، ومسالك مفتوحة للهجرة غير الشرعية.
إذا كان بعض المراقبين يقارنون بين (مؤتمر باريس - مايو/أيار 2018) وقمة باليرمو الأخيرة على أساس التشابه العام في البيانين الختاميين، والمقررات بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية يسبقها الاتفاق على دستور وقوانين انتخابية، وفقاً لمقررات مؤتمر الصخيرات (ديسمبر/كانون الأول 2015).. أو يركزون أكثر مما ينبغي على اللقاء بين القائد الأعلى للجيش الوطني الليبي (خليفة حفتر) ورئيس حكومة الوفاق الوطني (فايز السراج).. إلخ، فإننا نجرؤ على القول بأنه شتان ما بين مؤتمر باريس وقمة باليرمو وحظهما من إمكانيات النجاح.. ونقول ذلك حتى لو لم تتحقق النتائج المرتجاة من قمة باليرمو في المواعيد المقررة.. أي انعقاد المؤتمر الوطني للأطراف الليبية خلال أسابيع، وإجراء الانتخابات العامة، الرئاسية والبرلمانية قبل نهاية الربيع القادم (يونيو/حزيران 2019).
وإذا كان مؤتمر باريس قد انعقد بحضور أطراف الأزمة الليبية المحليين الأساسيين، وعكس أطماع فرنسا - مستحيلة التحقيق - في السيطرة على مسار التسوية المنشودة، ومن ثم على ثروات ليبيا النفطية الهائلة، فإن (قمة باليرمو) قد شهدت- إلى جانب الأطراف المحلية الأساسية - حضورا دوليا واسعا ورفيع المستوى، لدول ومنظمات إقليمية ودولية فاعلة ومرتبطة بالأطراف الليبية المتصارعة، وقادرة على التأثير بشكل كبير في مجرى الصراعات الجارية في البلاد: الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، والرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، ورئيس الوزراء الجزائري أحمد أو يحيي (أهم دول الجوار الليبي).. ورئيس الوزراء الروسي دميتري ميدفيديف - الذي تجمع بين بلاده وحفتر علاقات سياسية وتسليحية وثيقة - ووزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، ونائب الرئيس التركي ياسين أقطاي (انسحب قبل نهاية المؤتمر لأسباب سنجيء إليها)، ورئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، فضلاً عن التمثيل الرفيع لجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي وكل هؤلاء في ضيافة رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي.
هذا التجمع رفيع المستوى يعكس إدراكا دوليا وإقليميا جديا لاستحالة استمرار الوضع بالغ الخطورة الموجود في ليبيا (كمرتع للإرهاب الدولي، وطريق مفتوح لتدفق عشرات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين) بما يمثله من تهديد فادح للأمن والسلام في حوض البحر المتوسط والقارة الأوروبية، وفي منطقة شمال إفريقيا (وخاصة مصر وتونس والجزائر) فضلا عن منطقة الصحراء الإفريقية الكبرى، وصولا إلى نيجيريا وسواحل غرب إفريقيا على المحيط الأطلسي.. حيث يتحرك الإرهابيون بحرية في منطقة الصحراء الكبرى مستغلين المساحات الكبيرة، والضعف العسكري والأمني لأغلب دول المنطقة، الأمر الذي يمثل تحديا هائلا يحتاج إلى جهود دولية ضخمة ومنسقة لمواجهته.
ومن ناحية أخرى فإن التمثيل الواسع للدول (والمنظمات) يعكس إدراكا لضخامة المهمة المطلوب القيام بها في ليبيا، وضرورة حشد أوسع للقوى الإقليمية والدولية الممكنة للقيام بها.. كما يعكس إدراك ضرورة احترام مصالح مختلف الأطراف في الوضع الليبي، سواء من ناحية درء المخاطر (بالنسبة للإرهاب والهجرة غير الشرعية، وتشظي البلاد وخاصة في الجنوب والغرب) أو من ناحية المكاسب المحتملة فيما يتصل بالروابط الاستراتيجية والعسكرية أو الأسواق والاستثمارات، وخاصة في النفط والغاز اللذين تتمتع ليبيا بثروات ضخمة منهما، يزيد من قيمتها قربها الشديد من الأسواق الأوروبية.
وبديهي أن مراعاة التوازن (قدر الإمكان) واحترام مصالح الآخرين (قدر الإمكان أيضا) لا يلغي التنافس من أجل انتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب.. وعلى سبيل المثال فإن شركة «إيني» الإيطالية هي أكبر شريك في سوق النفط والغاز الليبية (350 ألف برميل - يوميا) كما تشارك مؤسسة النفط الوطنية الليبية في استغلال أكبر حقل بحري للغاز (بحر السلام) والمتوقع أن يبلغ إنتاجه قريبا (1.1 مليار قدم مكعبة يوميا).. وتليها شركة «توتال» الفرنسية المشاركة في حقل (الواحة) البحري الضخم.. وتليهما شركات أمريكية «أوكسيد ينتال» وبريطانية (بي. بي).. وهكذا.
وعلى سبيل المثال أيضا فإن الوجود العسكري الروسي الكبير في سوريا وشرق المتوسط، وعلاقة موسكو القوية بحفتر عسكريا وتسليحيا، وكذلك علاقتها القوية بمصر، ودعمها لجهودها في مكافحة الإرهاب، كانت أسبابا لدعوة روسيا للمشاركة في المؤتمر، فجاء رئيس وزرائها نفسه.. علماً بأن روسيا يمكن أن يكون لها دور في مكافحة الإرهاب في الصحراء الكبرى أيضا.
أما المثال الأكثر بروزاً في احترام المصالح والعلاقات السياسية والعسكرية والاستراتيجية عموما، فكان إسناد مسؤولية دعم الحوار بين الأطراف الليبية لبناء مؤسسات عسكرية ومدنية فاعلة، تحت إشراف مدني.. إلى مصر، دون غيرها.
فمصر بحكم الروابط التاريخية لها بليبيا، ووجود قبائل تعيش في المناطق الحدودية بين البلدين (تواصل وتكامل ديمغرافي) وبحكم الحدود المشتركة الممتدة (أكثر من 1200 كم2) بين البلدين وبحكم علاقتها الممتازة بحفتر وجيشه وبرلمان طبرق (عمل مشترك ضد الإرهاب في منطقة الحدود الغربية المصرية والشرقية الليبية).. وكذلك بحكم علاقاتها الجيدة مع طرابلس (المنطقة الغربية) وكذلك بحكم خبراتها وإمكاناتها، يمكن أن تلعب دور الرعاية لعملية بناء المؤسسات العسكرية والمدنية الليبية الفاعلة.. وهو ما أكد عليه مؤتمر باليرمو.
دعوة تركيا لحضور المؤتمر كانت لافتة للنظر.. فمعروف أن دورها كبير في دعم الإرهاب في ليبيا بالسلاح والأفراد، حيث تنقل الإرهابيين من سوريا والعراق إلى ليبيا، بدعم مالي قطري.. لكن حفتر رفض الجلوس مع ممثل تركيا (أو مع خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة.. المنتمي لجماعة الإخوان) فانسحب ياسين أقطاي نائب أردوغان، مهدداً بأن أي جهد يستبعد تركيا لن يكتب له النجاح!! والحقيقة أن الدور التركي في ليبيا سلبي وتخريبي كله.
وكانت مناقشة ضرورات إعادة إعمار ليبيا، وبناء اقتصادها، ومكافحة الفساد وتهريب (أمراء الحرب) في المنطقة الغربية للنفط، وتمويلهم للإرهاب.. كانت نقطة مهمة تميز بها مؤتمر باليرمو، ومن شأنها المساعدة على تجفيف منابع الإرهاب في غرب وجنوب ليبيا.. وكذلك ضرورة توحيد البنك المركزي المنقسم حاليا إلى قسمين (شرقي وغربي) كخطوة ضرورية لإحكام الرقابة على الأموال الليبية المنهوبة.
وبعد ذلك كله.. هل ينعقد المؤتمر الوطني الليبي في موعده - أوائل العام القادم - وهل يتم الاتفاق على الدستور وتجرى الانتخابات البرلمانية والرئاسية (في يونيو 2019) ومن ثم إعادة بناء الدولة؟ الإجابة تتوقف على نجاح المؤسسة العسكرية في ضرب الجماعات الإرهابية الكثيرة في الغرب والجنوب وفي طرابلس العاصمة نفسها.. وعلى النجاح الدولي في تجفيف منابع الإرهاب.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"