«تعريفة المترو».. تشعل تشيلي!

03:42 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. صدفة محمد محمود *

تشهد تشيلي منذ الثامن عشر من شهر أكتوبر الماضي سلسلة من الاحتجاجات، التي شابتها أعمال عنف، في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات قد نُظمت، في البداية، اعتراضاً على قرار رفع تعريفة ركوب المترو في العاصمة سانتياجو، لكن سرعان ما اتسع نطاقها، وازداد عدد المشاركين فيها، كما ارتفع سقف مطالبهم، ما يكشف عن سيادة حالة من الغضب الشديد في صفوف التشيليين العاديين.
تماشياً مع اتساع نطاق التظاهرات وتصاعد مطالب المحتجين، قامت حكومة الرئيس التشيلي «ساباستيان بينيرا» بتغيير أساليب مواجهة وكذلك نمط تعاملها مع تلك التظاهرات، في محاولة لتهدئة المحتجين واستعادة النظام والأمن إلى بلد كان يُوصف، حتى وقت قريب، ب«واحة الاستقرار والتنمية الاقتصادية في أمريكا اللاتينية».
* أولاً: أسباب الاحتجاجات
مثَّلت التظاهرات الشعبية الحاشدة التي اندلعت في تشيلي صدمة للكثير من المحللين والمراقبين، بالنظر إلى نجاحها الملحوظ على المستويين الاقتصادي والاجتماعي؛ إذ إن لديها أعلى مستوى للأجور الحقيقية في أمريكا اللاتينية، إلى جانب ارتفاع متوسط العمر المتوقع عند الميلاد، والتراجع الملحوظ في نسبة البطالة، كما كانت تشهد تراجعاً في معدل التفاوت في توزيع الدخل. ووفقاً لمعايير أمريكا اللاتينية، تتمتع تشيلي بمعدل منخفض للجريمة ودرجة عالية من النظام والأمن العام. كما تجري فيها انتخابات حرة ونزيهة، وعملية تداول سلمي للسلطة بشكل منتظم، منذ نهاية الحكم الديكتاتوري عام 1990.
ورغم ذلك، فقد كانت تلك المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تُخفي العديد من الاختلالات في الهيكل الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. حيث عانى المواطنون، لسنوات طويلة، ارتفاع معدل التفاوت الاجتماعي، وقد وجد تقرير للأمم المتحدة صادر في عام 2017 أن أغنى 1 بالمئة من السكان يسيطرون على 33 بالمئة من ثروة البلاد. وبالرغم من كونها دولة غنية بالمعيار الاقتصادي، فقد أعربت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (تشيلي عضو فيها) مراراً وتكراراً عن مخاوفها من اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء في البلاد.
وفي ظل خصخصة العديد من الخدمات الأساسية، كان هناك ارتفاع كبير في تكلفة تلك الخدمات وفي مقدمتها الصحة والتعليم، إضافة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، في مقابل حصول العمال في تشيلي على 550 دولاراً شهرياً أو أقل. كما اشتكى المواطنون من انخفاض المعاشات التقاعدية، والافتقار إلى السكن اللائق.
وأثارت الامتيازات المخصصة لقطاعات معينة من المجتمع غضب شريحة كبيرة من السكان، الذين ترسخ لديهم الاعتقاد بأنهم لم يستفيدوا بشكل كاف من ثمار النمو الاقتصادي الذي حققته البلاد، وأن الحكومة لا تعمل لصالحهم. وأظهرت نتائج استطلاع للرأي أُجري عام 2018، أن 70 بالمئة من المواطنين يعتقدون أن البلاد محكومة لصالح حفنة من المجموعات القوية. وأعرب 17 بالمئة و14 بالمئة على التوالي عن ثقتهم في البرلمان والأحزاب السياسية.
* ثانياً: الإجراءات التي اتخذتها الحكومة
أخذت العلاقة بين الحكومة التشيلية والمتظاهرين صورة الفعل ورد الفعل، وتغيرت استجابة الحكومة لمطالب المتظاهرين بشكل كبير منذ اندلاع الاحتجاجات. ففي البداية لم يبد الرئيس التشيلي الملياردير «ساباستيان بينيرا»، الذي حكم البلاد خلال الفترة من 2010 إلى 2014، وأُعيد انتخابه لولاية رئاسية ثانية عام 2017، أي اهتمام يُذكر بالتظاهرات، حتى إنه تم تداول فيديو له يتناول العشاء في مطعم إيطالي راق احتفالاً بعيد ميلاد حفيده، وهو ما أثار غضب المحتجين بشكل كبير، لأنه بدا وكأن الرئيس غير مهتم بالمتظاهرين أو بمطالبهم، ورأى بعضهم في ذلك دليلاً واضحاً على الهوة الواسعة بين النخبة الحاكمة والناس في الشوارع.
ومع اشتداد وتيرة الاحتجاجات، وتعرض العديد من المنشآت الحكومية والخاصة للتدمير والنهب والسرقة، ومع بدء سقوط ضحايا من المدنيين، قام الرئيس بتسليم الجيش مهمة استعادة الأمن والانضباط إلى الشارع، وتم نشر حوالي 20 ألف جندي وشرطي، وذلك للمرة الأولى منذ استعادة البلاد الديمقراطية عام 1990، وهي الخطوة التي قوبلت باعتراض شديد من قبل المتظاهرين، لأنها تُعيد إلى الذاكرة فترة حكم الديكتاتور «أوجستو بينوشيه» (1973-1990)، والتي اختفى خلالها قرابة 2300 شخص، كما تعرض 40 ألف شخص للتعذيب.

حالة الطوارئ

كما أعلن الجيش حالة الطوارئ وفرض حظر التجول، ولم يكتف الرئيس بذلك بل وجه الاتهامات إلى المحتجين، قائلًا إن: «تشيلي في حالة حرب مع عدو قوي لا يحترم أي شيء، ونحن على استعداد لاستخدام العنف بلا حدود».
ومع استمرار أعمال العنف والنهب، وسقوط المزيد من الضحايا، تراجع الرئيس عن خططه لزيادة أسعار تذاكر المترو، وأعلن عن حزمة من الإصلاحات، شملت زيادة الحد الأدنى للأجور، وزيادة معاشات الدولة، وتجميد رسوم الكهرباء. وتغيرت لهجة الرئيس في التعامل مع التظاهرات، حيث قال: «في مواجهة الاحتياجات المشروعة والمطالب الاجتماعية لمواطنينا، تلقينا بتواضع ووضوح الرسالة التي أرسلها لنا الشعب».
غير أن هذه الحزمة من الإصلاحات لم تلق رضا المحتجين، الذين استمروا في التظاهر، حتى بلغ عدد المشاركين في بعض التظاهرات أكثر من مليون شخص، ما دفع الرئيس التشيلي إلى الإعلان عن تعديل وزاري موسع في 29 أكتوبر الماضي، في محاولة لتهدئة المحتجين. ورغم تغيير ثمانية وزراء في حكومة الرئيس بينيرا، فقد استمر المواطنون في التظاهر، بل وارتفع سقف مطالبهم إلى هو ما أبعد من ذلك، للمطالبة بوضع دستور جديد يحل محل الدستور الذي كُتب في عام 1980 في عهد الديكتاتور بينوشيه. كما نادى المحتجون بضرورة استقالة الرئيس، الذي أكد أنه لن يستقيل بسبب الاحتجاجات متمسكاً باستكمال فترة ولايته الرئاسية التي تنتهي في عام 2022.
ومع تزايد الضغوط على الرئيس، أعلن في 10 نوفمبر الجاري أن حكومته تنظر في إجراء تغييرات دستورية «بشكل عاجل». كما اعترف بإساءة رجال الشرطة معاملة المتظاهرين ووجود انتهاكات وتجاوزات خلال الاحتجاجات التي تشهدها البلاد، مؤكداً أن مكتب المدعي العام بدأ التحقيق في تجاوزات وخرق قواعد استخدام القوة لرجال الشرطة وإساءة معاملتهم للمتظاهرين، وإنه سيتم محاكمة المخالفين.

الدعوة إلى تنحي الرئيس

مع استمرار الاحتجاجات في تشيلي، والتي تُنذر بسقوط المزيد من الضحايا خلال الأيام القادمة، أصبح من الواضح عجز الرئيس بينيرا عن تهدئة الاحتجاجات، ما يجعل كل البدائل مطروحة على الطاولة. خاصة مع محاولة المعارضة توظيف التظاهرات، لدفع الرئيس التشيلي إلى الاستقالة، حيث تقود المعارضة في الوقت الراهن محاولة داخل الكونجرس لعزله من منصبه، من خلال تحميله المسؤولية عن الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان، خاصة مع سقوط أكثر من عشرين قتيلاً ومئات الجرحى أثناء الاحتجاجات.
وفي ظل تراجع شعبية الرئيس إلى أدنى مستوياتها، حيث وصلت إلى 14 بالمئة، ومع استمرار فشل الطبقة الحاكمة في معالجة الأسباب الحقيقية للاستياء الشعبي، يزداد غضب المواطنين المتظاهرين في الشوارع.

* باحثة متخصصة في شؤون أمريكا اللاتينية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"