«رحلة الهجن».. سفر في الماضي عبر صحراء الدولة

يطلقها غداً مركز حمدان لإحياء التراث بمشاركة 15 شخصاً
01:26 صباحا
قراءة 6 دقائق
أمل سرور

ساعات قليلة وتبدأ الرحلة إلى الماضي، نعبر بالزمن إلى الوراء لنسير عبر دروب التاريخ في محاولة جادة ومتميزة ومتفردة نقتفي من خلالها آثار الأجداد الذين حفروا معاناتهم بإرادتهم الصلدة على تلك الرمال الصفراء الناعمة التي كانت خير شاهد على أسرار وأساطير أصالة الزمن القديم.

تشرق شمس الغد على انطلاق 15 مغامراً قرروا خوض غمار التجربة ويتحدون الصعاب من خلال رحلة برية بالهجن، ينظمها للعام الثاني على التوالي مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، والتي من المفترض لها أن تجوب عدة إمارات في الدولة لمسافة 500 كم وتستغرق 10 أيام.
لحظات أخيرة من الإعداد والاستعداد والتدريبات القاسية التي يخضع لها المشاركون على يد من لقبوه ب«أسد الصحراء»، أحاسيس لم تخلُ من التوتر والقلق والرهبة والخوف رصدتها، وانفردت بها «الخليج» التي حضرت العد التنازلي لساعة الصفر في عزبة الرحالة محمد بن تريم.
تشق السيارة طريق الإمارات العابر لتنحني بنا يميناً عند المخرج 67، معلنة قرب وصولنا إلى مقر تدريب الرحالة في عزبة محمد بن تريم، وها هي تطل على تلك التي تختزن تحت رمالها قصص الفروسية وأشعار البادية، تشعر ما إن تتأملها بأنها ذاك الفضاء الغامض والساحر الذي يشد حواسك جميعها. إنها الصحراء التي على رمالها يهمس الريح لسعف النخيل، راسماً لوحاته النادرة بين أحضان جبالها وكثبانها الرملية، وجوه هادئة وقلوب بِكر لم تعرف للتلوث طريقاً. تشدني رائحتها وتأسرني أطرافها المترامية وآفاقها التي لا تنتهي، عندما تتأملها تشعر حتماً بضآلة الإنسان فلا تملك إلا الصمت.
ملامح وجهه الودودة وابتسامته التي اعتلت وجنتيه ، وعيناه اللتان تلمعان لمعة الصقور، كانت كفيلة أن تجعلني أفيق من حالة التأمل التي انتابتني لمعشوقتي الصحراء، هكذا استقبلني محمد بن تريم، وافترشتُ السجاد البدوي اليدوي معه، ليلتف حولنا عدد لا بأس به من المتدربين للقيام بالرحلة، وبعد طقوس الترحاب البدوية بنت الصحراء من القهوة العربية الأصيلة والتمر الإماراتي الشهير، بادرته بالسؤال عن عشقه للصحراء وكيف يحفظها عن ظهر قلب ، وكيف استطاع تدريب 15 مشتركاً ليس لمعظمهم أي خبرة بركوب الهجن؟ استمع أسد الصحراء لأسئلتي مبتسماً ثم أجابني بهدوء: «أنت تريدين معرفة كل الأسرار في دقائق، مع العلم أن كل سؤال يحتاج يوماً كاملاً للإجابة عنه، ولكني أحاول الحديث بشكل مفصل وموجز عن ذلك العالم».
يقول تريم: «بداية علينا الاعتراف بأن صحراء الدولة، تقدم نموذجاً لا يمكن وصفه أو نسيانه بالنسبة لمن تجول فيها، فهي تمزج الرمال مع تصاميم المدن الحديثة والأبراج الشاهقة، وتعتبر المناطق الرملية في الإمارات ذات طبيعة خلابة وسحر خاص، فهي تنفرد بوجود أنواع فريدة من الأشجار البرية والحيوانات والطيور، وتعد موطناً للعديد من الأنواع النادرة التي تأقلمت في عيشها مع قسوة الصحراء، كما تمثل حياة البساطة في البادية، التي لا يزال الإماراتي يحافظ عليها»، يصمت قليلاً ليضيف: «أستطيع أن ألخصها لك في أنها مكان يشحذ الهمم للعودة بطاقة جديدة للحياة، ولا أبالغ حين أقول لك إنها كلوحة مرسومة بعناية فائقة».
كاد زمام الحديث يفلت من يدي، فحديث الرجل عن الصحراء يحتاج، كما قال، أياماً، وسرعان ما انتهزت فترة صمت قليلة لم تدم إلا بضع ثوانٍ، لأسأله عن دوره في تدريب المشاركين والصعوبات التي واجهته للقيام بتلك الرحلة، يجيبني قائلاً: «بداية تلك الرحلة التراثية التي نسير فيها على خطى أجدادنا تحمل الكثير من الأهداف ، أهمها إحياء التراث الإماراتي وترسيخ الهوية الوطنية وتعريف الشباب بتاريخ الآباء والأجداد ونمط الحياة التي عاشوها وكيفية التعامل في الظروف والمواقف الصعبة، لتمكينهم من القدرة على اتخاذ القرار عندما تندر كل سبل الراحة والتقنيات الحديثة، وليكملوا مسيرة الآباء التي وصلت بالدولة إلى مصاف الدول المتقدمة في العالم، مع فخرهم واعتزازهم بتراثهم المادي والمعنوي والحفاظ عليه من الاندثار لنقله إلى الأجيال المقبلة. الأمر الأهم والجديد في هذه الدورة التي تعقد للعام الثاني على التوالي أن المشاركين ليسوا من الدولة فحسب، بل أيضاً من دول مختلفة مثل الهند وأوروبا، وهي رسالة أيضاً يتعرف من خلالها شعوب العالم ألي ثقافاتنا وتقاليدنا العربية العريقة».
يوضح تريم كيف أخضعوا المشاركين لدورات تدريبية مكثفة قبل بدء الرحلة للتعرف إلى كيفية التعامل مع الهجن والسفر في الصحراء لمسافات طويلة ومعرفة الاتجاهات من دون استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة، إذ يستخدمون في رحلتهم الوسائل والخرائط القديمة ذاتها التي اعتمد عليها الأجداد في رحلاتهم، فضلاً عن التعرف الى الاتجاهات من خلال تتبع مواقع شروق الشمس وغروبها.
يضيف: «أجمل ما لاحظته على المشاركين هو حبهم للتعلم في وقت قياسي، فشهدت الرحلة انضمام مجموعة من الشباب لا يملكون من الخبرة في التعامل مع الهجن شيئاً، وخلال الأيام الثلاثة الأولى استطاعوا التعامل وكأنهم تدربوا على ذلك منذ سنوات، ففي اليوم الأول كانوا لا يستطيعون مسك الخطام بشكل صحيح، واليوم نجحوا في قيادة الجمل بشكل أكثر من متمرس».
يقطع تريم حديثه منادياً على فيصل عبد العزيز، الهندي الجنسية وأحد المشاركين في الرحلة، ليبدأ فيصل حديثه قائلاً: «تلك هي المرة الأولى التي أشارك فيها في رحلة الهجن، ولم أكن يوماً من هواة تلك النوعية من الرحلات والمغامرات، ولكنني ذهبت إلى أداء العمرة ورأيت الطريق من مكة إلى المدينة وتخيلت كمية المعاناة التي تعرض لها نبينا سيدنا محمد رسول الله ،عليه الصلاة والسلام، وتمنيت أن أسير نفس الرحلة بالجمال، وبعدها ذهبت إلى وطني وفوجئت بإعلان في جريدة عن تلك الرحلة، فتواصلت معهم عبر الموقع الإلكتروني وقدمت للمشاركة وكانت المفاجأة هي قبولي، فأتيت إلى دبي وتحديداً إلى مركز محمد بن تريم، وتلقيت تدريبات من أقسى ما يمكن، وأهم مقولة ترن في أذني وأعتقد أنني لن أنساها، هي ما قاله لنا مدربنا بأن نتعلم كيف نقتل الخوف ونهزمه وكيف ننجح في إقامة علاقة وطيدة مع الجمل الذي سنمتطيه، ونفذت كل النصائح وتحملت قسوة التدريبات للقيام بتلك الرحلة التي سننطلق فيها عبر الصحراء بعد ساعات قليلة، وأتوقع لها بأنها لن تكون سهلة بل محفوفة بالمخاطر والصعوبات، ولكن كيف لنا أن نقلق ونرتاب ونحن تدربنا على يد أسد الصحراء».
ما أن أنهيت حديثي مع فيصل إلا وجاءني صوت تريم مهللاً، قائلاً: «أهم ما في الرحلة هو أنها بالتعاون مع الرحالة اليمني أحمد القاسمي الذي اشتهر برحلاته الاستكشافية حول العالم منذ العام 1994، وقطع خلالها 40 ألف كم خلال 4 رحلات بدأت في العام 1994-1995، جابت شمال إفريقيا والمغرب العربي، بينما كانت رحلته الثانية في العام 1995، وشملت الشام وشبه الجزيرة العربية، وكانت رحلته الثالثة في جنوب شرق آسيا انطلاقاً من الكويت في عامي 1999-2000، أما الرابعة فكانت برعاية مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، في العام 2013، وخاض فيها القاسمي مغامرات خطرة في أدغال إفريقيا على مدى 4 أشهر».

نساء على أسنمة الجمال

شارلوت سرازين وراشينا أحمد، هما الجديد والمختلف في الدورة الثانية للرحلة البرية بالهجن، إذ إنها المرة الأولى التي يشارك العنصر النسائي في تلك المغامرة. ولم يكن ممكناً أن أكون على أرض العزبة ولا أنتظرهما لحين الانتهاء من التدريبات الليلية الأخيرة قبل انطلاق الرحلة.
شارلوت فرنسية الجنسية ومقيمة في دبي منذ 3 سنوات، تمتلك مطعمها الخاص كنوع من أنواع العمل في الاستثمار في مدينة الأرقام القياسية، على حد وصفها، تبدأ حديثها عن تلك التجربة التي ستخوضها بعد ساعات قليلة، قائلة: «إنها تجربتي الأولى في ركوب الجمال، وليس لدي أي خبرة بهذا العالم، ولكنه عالم جاذب بالنسبة لي، فالفضول كاد أن يقتلني لمعرفة كيف يكون الشعور وأنا أعود إلى الوراء قروناً وأزماناً بركوب الجمل». وتضيف: «حين علمت بتلك الرحلة التي ينظمها مركز حمدان للتراث لم أتردد في المشاركة وسعدت للغاية بقبولهم لي، ومن لحظتها وأنا أخضع لتدريبات مع محمد بن تريم في منتهى الصعوبة، وأتذكر أنه ساعدني في التخلص من خوفي، خصوصاً حين ركبت الجمل لأول مرة، ومن بعدها تفوقت وأصبحت من المميزين في فريقه، وأيضاً سعيدة بأن يكون لي وصديقتي نصيب الانفراد في اشتراك المرأة في مثل هذه الرحلات، فنحن لسنا أقل من الرجال».

وعن استفادتها من التجربة، تعتبر شارلوت نفسها من المحظوظات بتلك الفرصة التي أتاحت لها معرفة أشياء كثيرة عن التقاليد العربية وطقوس الصحراء، وتقول: «أتوقع أن تكون الرحلة صعبة خصوصاً مع المناخ الصحراوي لكني قبلت التحدي».
راشينا أحمد، هندية الجنسية، ترى أنها حققت نجاحاً لمجرد مشاركتها في مثل هذه الرحلة، وتقول: «عرفت بتلك الرحلة عبر إعلان في الجريدة، وبادرت على الفور بالتواصل مع المركز، لكنهم أبلغوني في البداية أنها قاصرة على الرجال، ولكن سرعان ما تغيرت الآراء التي جاءت في مصلحتي، ووجدتهم يتصلون بي ليعلنوا موافقتهم، وبالفعل جئت إلى دبي لأحقق حلمي في تلك المغامرة التي أخوضها لأول مرة، وأنا على يقين بأنها لن تكون الأخيرة. فزوجي وأطفالي من ورائي بالدعم والتشجيع، ويقولون إنهم فخورون بي، وأنا أتمنى تحقيق نجاح في مثل هذا النوع من المغامرات».
وتضيف: «الجميل والعظيم أنني من خلال تلك الرحلة عايشت البيئة التي أحبها ولطالما قرأت عنها كثيراً، فالصحراء عالم متميز ومتفرد يأسر القلوب، ولست خائفة من الرحلة. فأنا اخترت الصعاب وعلي تحمل المسؤولية».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"