أوبئة الماضي تكشف أمراض الغد

02:34 صباحا
قراءة 7 دقائق

تمكن باحثون بريطانيون مؤخراً من التعرف إلى الحمض النووي للبكتيريا المسؤولة عن مرض السل الذي انتشر قبل 8000 سنة في فلسطين، وذلك من خلال عظام موتى وجدت في منطقة عتليت التابعة لمحافظة حيفا حيث تم العثور على واحد من أقدم التجمعات البشرية التي مارس فيها الإنسان آنذاك الرعي والزراعة .

وكان الباحثون وجدوا هذا التجمع مغموراً بالمياه لسبب أرجعوه اما لظاهرة تسونامي قديمة أو لتقدم البحر نحو اليابسة جراء ذوبان الكتل الجليدية في العصور القديمة، لكنهم أشاروا إلى أن الهياكل العظمية التي وجدت لخمسة وستين رجلاً وامرأة وطفلاً لم يمت أصحابها جراء تلك الظواهر بل بسبب عامل آخر يسمى (ميكوبكتيريا توبركيلوز) أو كما يسميه الباحثون الآن المتفطرة السلية أو عصيات كوخ نسبة إلى مكتشفها الطبيب والبيولوجي الألماني روبرت كوخ سنة 1883 .

كان الباحثون البريطانيون برئاسة هيلين درنوج عثروا في عام 2008 على الحمض النووي (DNA) لهذه البكتيريا لدى دراستهم لعظام موتى في التجمع البشري المذكور آنفاً وبالتحديد لدى أم وطفها ما يعني أن هذه البكتيريا كانت متوافقة مع جسم الإنسان في ذلك العهد البعيد، ويشير إلى أن البكتيريا الحالية المسببة للسل تنحدر من تلك السلالة القديمة ولا علاقة للأبقار بنقل السل إلى الإنسان كما كان يعتقد قبل عدة سنوات، لأن تدجين هذه الحيوانات لا يعود إلا إلى 8000 سنة في حين أنه وجد أن أقدم بقايا للحمض النووي (DNA) للسل تعود إلى ما قبل 3500 سنة قبل الميلاد، أي أن وجود هذه البكتيريا يصبح أقدم ب 2500 سنة على حد قول باحثي مستحاثات الأمراض أي الذين يبحثون في أوبئة العصور الماضية مستندين في ذلك على آخر ما توصلت إليه علوم البيولوجيا الدقيقة وتحاليل الحمض النووي، علماً بأنهم كانوا يكتفون سابقاً بما تدل عليه تحليلات العظام التابعة لحيوانات أو مومياوات بشرية .

ويقول هؤلاء إن من بين الأوبئة الخطرة التي أصابت الإنسان بعنف وتركت آثارها في عظامه حتى بعد الموت، الجذام والسل، والسفلى علماً بأن مصدر هذا الأخير لم يتم تحديده بشكل قاطع حتى الآن .

لب الأسنان والأوبئة

ويرى باحثون فرنسيون أن تحليل الحمض النووي للعظام يعتبر بالنسبة لاخصائيي مستحاثات الأوبئة بمثابة الدليل الأكيد الذي يمكن أن يتركه المجرم على مسرح الجريمة، وبما أنه من الصعب العثور على الحمض النووي لبكتيريا في كومة من العظام بعد مرور قرون عليها، ارتأى هؤلاء أن يستخدموا الأسنان الموجودة مع الهياكل العظمية للمرة الأولى في هذا المضمار خاصة أن الأسنان هي الأجزاء من الجسم التي تبقى محفوظة بشكل جيد حتى لو طال عليها الزمن فترة طويلة نظراً لأن طبقة الميناء فيها تحمي اللب من أي عدوى خارجية .

وعلاوة على ذلك، فإن لب الأسنان يعتبر نسيجاً غنياً بالأوعية الدموية مثله في ذلك مثل الدماغ، بمعنى أنه إذا كانت البكتيريا قد سرت في دم المريض، فإنها لا بد أن تكون قد مرت عبر أسنانه تاركة حمضها النووي أثناء مرورها .

وانطلاقاً من هذه الفكرة، نجح الباحث ديديه راولت وفريقه العلمي في عام 1998 في كلية الطب بمرسيليا بفرنسا في العثور على الحمض النووي للبكتيريا المسببة للطاعون في أسنان بعض الموتى المفترض أنهم ماتوا بالطاعون في عام 1720 حين ضرب هذا الوباء الفظيع هذه المدينة .

ونتيجة لهذا النجاح الكبير الذي حققه ديديه وفريقه العلمي، قرر إجراء مزيد من الأبحاث على أوبئة أخرى انتشرت في الماضي بالقرب من مدينة مونبيلييه حيث تم اكتشاف حفرة كبيرة حفرت في عام 1348 وذلك في نفس الفترة التي ضرب فيها الطاعون الأسود المدينة .

ولكن هل كان المرض المنتشر هو الطاعون الأسود بالفعل؟

في هذا الصدد يعتقد بعض الباحثين أن هذا المرض الذي سمي بالطاعون كان مرض الكوليرا أو السل أو الانفلونزا أو أنه مرض ظهر بسبب جرثومة الجمرة الخبيثة .

ويقول هؤلاء إن تعبير الطاعون يعني بشكل آخر الوباء المدمر (المهلك) وقد تم وصف عدد من الأمراض به عبر التاريخ لأن النصوص المعاصرة تشير إلى الطاعون بشكل محدد بتعابير أخرى غير واضحة تماماً كالموت الأكبر والموت الأسود أو بشكل مختصر (الوباء) .

أما فيما يتعلق بالأعراض التي ذكرتها النصوص التاريخية لتلك الفترة، فلا تفيد كثيراً أولئك الذين يدرسون أوبئة الماضي .

ويؤكد خبير الانثروبولوجيا أوليفيه ديتور الذي شارك في الدراسة البحثية مع ديديه، بأنه كان من الصعوبة بمكان وصف الأمراض التي انتشرت قبل عام 1850 لا سيما في موضوع الطاعون، لكن الفريق العلمي أكد في عام 2000 أن المرض الكبير الذي انتشر في أوروبا واجتاحها برمتها خلال الفترة الواقعة بين 1347 و،1352 كان هو الطاعون بالفعل . لم يتجاوز الخمسة أشهر قضى الطاعون على أكثر من 25 مليون نسمة، أي ما يعادل ثلث ونصف سكان أوروبا في ذلك الوقت .

ومن المعروف أن هذا الوباء دمر امبراطوريات وغير اقتصادات الدول وأدى إلى ظهور قوى جديدة كمملكة التوسكان، كما أدى إلى إيقاف الحروب لعدم توفر أعداد كافية من الجنود، فعلى سبيل المثال توقفت الحرب بين جنوة وفينيسيا جراء هذا الوباء، كما توقفت الحرب في إقليم الفلاندر التاريخي الذي كان جزءاً من شمال أوروبا ووحدة قائمة بذاتها .

تقنية جديدة

ولنعد الآن إلى اخصائيي علم مستحاثات الأمراض، ففي عام 2004 وضع هؤلاء تقنية لاستكشاف ال (دي إن إيه) أطلقوا عليها (Multi Spacers Typing) ويشار لها اختصاراً ب (MST) لدى الباحثين، ومن خلال هذه التقنية يمكن التعرف إلى أصل المرض، على سبيل المثال بدلاً من التعرف إلى البكتيريا التي سببت الطاعون من خلال جينات نوعية في البكتيريا، عمل الباحثون على الاهتمام بالأجزاء غير المشفرة للحمض النووي لهذه البكتيريا أو ما يسمى (Spacers) .

ولمزيد من التوضيح، نعلم أن الحمض النووي (DNA) مكون من أجزاء مشفرة للمعلومات (الجينات) وأجزاء غير مشفرة، كما نعلم أن الطفرات التي تحدث في ال (DNA)، تطرأ في هذه الأجزاء غير المشفرة وبالتالي فإن فرصتها كي تنتقل إلى الذرية تكون أكبر لأنها بكل بساطة لا تحدث اختلال وظيفية خطرة لدى المضيف .

ومن هنا فإن هذه النسبة الكبيرة من المتغيرات مكنت الباحثين من الحصول على دليل أكثر دقة للعامل المسبب للعدوى وبالتالي الوصول إلى أصله .

وكمثال على ذلك تبين للباحثين من خلال هذه الطريقة أن الطاعون الذي اجتاح العالم خلال الفترة الواقعة بين (541 - 767) والذي سمي بطاعون جوستنيان نسبة إلى الامبراطور جوستنيان الأول والطاعون الذي انتشر خلال الفترة الواقعة بين (1347 - 1352) والذي سمي بالطاعون الأسود، والطاعون الذي انتشر خلال الفترة الواقعة بين (1894 - 1945) والذي سمي بطاعون الشرق، تعود كلها إلى مصدر واحد هو طاعون الشرق .

قملة نابليون

ويبدو أن التقنية الجديدة التي وضعها باحثو مرسيليا والمعتمدة على تحليل لب الأسنان آتت أكلها، ففي بداية عام 2006 استخدمها الدكتور بابا جريجوراكيس من جامعة أثينا لكشف النقاب عن حقيقة بكتيريا (سلمونيلة كوليرا الخنازير) المسؤولة عن حمى التفوئيد التي قضت على ثلث سكان أثينا خلال الفترة الواقعة بين (430 426) قبل الميلاد والتي سرعت من أفول نجمها وقد عرف هذا المرض (بطاعون أثينا) .

وعلى نفس المنهاج استمر الباحثون أصحاب التقنية السابقة (MST)، ينقبون عن أمراض غامضة انتشرت في الماضي، ففي عام 2001 تبين لهؤلاء أن الوباء الذي قضى على عدد كبير من جنود نابليون حين عادوا من حملتهم على روسيا في عام 1812 يرجع إلى داء التيفوس وهو داء معد حاد تسببه بكتيريا تعرف (بالريكتسية) وهو ينتشر في المواطن التي يزدحم فيها الناس وتسوده أحوال غير صحيحة وتنقله إلى البشر (قملة البدن) .

وكان الباحثون عثروا في عام 2001 في منطقة فيلن يوس بلتوانيا على رفات لأكثر من ثلاثين جندياً من جنود تلك الحملة واستطاعوا استخراج الحمض النووي لبكتيريا الريكتسية من لب أسنان الرفات، كما توصلوا إلى جرثومة أخرى تسبب حمى الساق المؤلمة تسمى (البرتونيلة العصوية) .

والمعروف أن هذه الأخيرة لم توصف إلا خلال الحرب العالمية الأولى وذلك للمرة الأولى أيضاً أي بعد أكثر من قرن على هزيمة نابليون .

ويقول الباحث ديديه راولت إن النتائج التي توصل إليها مع فريقه العلمي، أثبتت أن 30% من جنود نابليون الذين دفنوا في مقبرة جماعية فيلنيوس في ليتوانيا وذلك بعد عبورهم لنهر بيريزينا، كانوا مصابين بالتيفوس أو حمى الساق المؤلمة، وأنهم ماتوا بسبب هذين المرضين، ولكن الباحث يطرح تساؤلاً مفاده: هل يمكن لقملة الجسم التي هي قريبة من قمل الشعر أن تودي بحياة 500 ألف جندي خلال الحملة على روسيا؟ ولهذا كان لا بد من العثور على هذه القملة نفسها لقطع الشك باليقين .

وهنا جاء التأكيد على هذا الأمر من تربة أخذت من الموقع الذي دفن فيه الجنود، حيث مزج الباحثون بين هذه التربة والكيروسين وحينها ظهرت المفاجأة، فقد عثر ديديه وفريقه العلمي على 5 قملات من تلك المشكوك فيها، وعندما قاموا بتحليل حمضها النووي، وجدوا أنها تحوي نوعين من البكتيريا المسببة لتلك الأمراض التي أهلكت جيوش نابليون .

أمراض قديمة جديدة

وأخيراً ربما يطرح أحد الأشخاص تساؤلاً عن السبب الذي دفع باحثين كباراً إلى العودة للبحث عن أوبئة قديمة جداً تعود إلى عدة قرون مضت؟

وفي هذا الصدد يقول الباحث أوليفيه ديتور: بعيداً عن الفائدة التي يمكن أن نحصل عليها من معرفة الدور الذي لعبته هذه الأوبئة في التاريخ، فإنه يجب علينا ألا ننسى أن هذه الأوبئة ليست مجرد ذكريات سيئة بالنسبة لنا، لأن منظمة الصحة العالمية أشارت في دراسة حديثة إلى ما يسمى بأمراض قديمة قابلة للعودة مرة أخرى كما لو كانت خلايا نائمة .

وتشير المنظمة إلى أن 40 ألف حالة أصيبت بأمراض قديمة خلال الخمس عشرة سنة الماضية أغلبها في إفريقيا .

من ناحية ثانية اكتشف الباحثون في عام 1995 في مدغشقر مادة مقاومة للمضادات الحيوية وهو ما جعلهم يشعرون بقلق بالغ ازاء هذا الأمر .

كما أن مرض السل يعاود الظهور من جديد في أوروبا بعد أن ظن العلماء أنهم قضوا عليه في هذه القارة .

ويقول ديديه راولت إن مرض حمى السابق المؤلمة يصيب اليوم ما بين 2-5% من الأشخاص الذين لا مأوى لهم في أوروبا .

ويعتقد الباحث أن أمراض مثل الجمرة الخبيثة والجدري والطاعون مرشحة لمعاودة الظهور من جديد في عالم متغير بهذه السرعة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"