إدلب.. ومأزق أردوغان

03:35 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

تشهد منطقة إدلب، شمال غربي سوريا، منذ مدة معارك بالغة الضراوة بين القوات الحكومية السورية وحلفائها من ناحية، وجبهة تحرير الشام «النصرة» وحلفائها من المنظمات الإرهابية كالجيش التركستاني و«جيش العزة» من جهة أخرى وتعتبر هذه المعارك الأكثر ضراوة على الإطلاق في تاريخ الصراع حول إدلب. إذ تقوم القوات السورية والروسية بقصف جوي ومدفعي مكثف على مواقع النصرة وحلفائها، يتلوه تقدم المدرعات والمشاة تحت نيران كثيفة.
كان القتال حول بلدة «كفر نبودة» الاستراتيجية مثالاً بارزاً لهذه المعارك الضارية في كل شارع وموقع، حتى تمكنت القوات الحكومية من احتلال البلدة، ثم استردها المسلحون بهجمات مضادة انتحارية، لتتمكن قوات الجيش السوري من السيطرة عليها مؤخراً بعد قتال شديد الضراوة وخسائر كبيرة في الأفراد والعتاد من الجانبين.
ومعروف أن إدلب هي المعقل الأخيرة للمنظمات الإرهابية، الذي تجمع فيه مقاتلوها من مختلف أنحاء سوريا، بعد خسارتهم مواقعهم تباعاً، وبالتالي فإنهم يخوضون معارك حياة أو موت من أجل كل موقع في إدلب، خاصة المقاتلين الأجانب (30- 40 ألف مقاتل) الذين لم يعد لديهم مكان آخر يذهبون إليه، اللهم إلاّ السجون أو منصات الإعدام سواء كان ذلك في بلادهم أو في سوريا.. وإذا أضفنا إلى هؤلاء عشرات الآلاف من رفاقهم السوريين والعرب.. وإذا وضعنا في اعتبارنا قوة تسليحهم وتجهيزاتهم الدفاعية من تحصينات وأنفاق وغيرها، لأدركنا صعوبة المهمة التي تواجه أي قوة مهاجمة تسعى للسيطرة على إدلب، ناهيك عن الاعتبارات الأخرى بالغة الأهمية المتصلة بالموقف التركي، والمواقف الإقليمية والدولية الأخرى.
لذلك كله كان تقدير عديد من المراقبين أنه بالرغم من الحشود العسكرية السورية حول إدلب، ومن الحديث المتكرر عن اجتياحها، فإن السيناريو الأقرب إلى المنطق وإمكانية التحقيق في ظل مجمل الأوضاع الراهنة، هو سيناريو «قضم الأطراف» أي سيطرة القوات الحكومية والروسية «والحليفة» على أطراف منطقة إدلب التي أصبحت تمثل تهديداً كبيراً لمواقع استراتيجية مهمة «مدنية أو عسكرية» سورية وروسية مثل قاعدة «حميميم» الروسية، ومواقع احتشاد قوات الجيش السوري وحلفائه، ومدينتي حلب واللاذقية.. إلخ، وهو ما يشير إليه بالفعل مسار العمليات القتالية خلال الأسابيع الأخيرة.
الأوضاع في منطقة إدلب شهدت تطورات نوعية خلال الشهور أو السنة الأخيرة، جعلتها تتحول من منطقة لخفض التوتر كما كان متفقاً عليه في إطار مسار أستانة.. إلى بؤرة ملتهبة.. وبدلاً من نزع سلاح «جبهة النصرة» وغيرها من المنظمات الإرهابية، وإقامة منطقة عازلة بعرض (15- 20 كم) بإشراف روسي- تركي، وجدنا أن «جبهة النصرة» قد سيطرت على 85% من مساحة إدلب.. وتركزت قواتها مع حلفائها وأسلحتهم الثقيلة في المنطقة العازلة المفترضة! وبدهيّ أن هذا لم يكن ليتم دون موافقة «الضامن» التركي!
الأمر الأخطر أن تسليح النصرة وحلفائها شهد تطوراً نوعياً مهمّاً، لم يكن يمكن أن يتم بعيداً عن موافقة - إن لم يكن مساعدة - «الضامن» التركي! فقد حصلت المنظمات الإرهابية على مئات الطائرات المسيّرة «الدرون» التي أصبحت تشن هجمات مستمرة على قاعدة «حميميم» وصحيح أنه كان يتم إسقاطها باستمرار، إلاّ أن هذه الهجمات كانت تمثل تحدياً معنوياً للقوات الروسية لا يمكن تجاهله، فضلاً على نجاحها في ضرب مواقع سوريّة.. وأخيراً حصلت المنظمات الإرهابية على صواريخ أرض- أرض يبلغ مداها (60 كم) منذ أشهر قليلة، بدأت تستخدمها في الهجوم على «حميميم».. وضرب مدينة اللاذقية.
ثم بدأت المنظمات الإرهابية خلال الأسابيع الأخيرة في إدخال تطويرات على طائرة «الدرون» لإكسابها صفة «الشبحية» أو التخفي من الرادار، بتغيير هياكلها المعدنية باستخدام غلاف من المواد الكربونية! وكذلك بتغيير حشوات القنابل والقذائف التي تحملها لتحل محلها مادة (c-4) شديدة الانفجار!
وكان ذلك كله سبباً في خروج روسيا عن صمتها الاضطراري الطويل لتتحدث عن «فشل تركيا» في الوفاء بتعهداتها بموجب مسار أستانة واتفاق سوتشي (سبتمبر 2017).. وتوجيه أصابع الاتهام لجهات وأجهزة تركية بمساعدة الإرهابيين.. ثم بالاشتراك مع القوات السورية بصورة واسعة النطاق في شن العمليات العسكرية الجارية حالياً، والتي أسفرت حتى الآن عن تحقيق مكاسب لا يستهان بها، والسيطرة على عدد من المواقع الاستراتيجية المهمة على أطراف منطقة إدلب.. كما تمكنت القوات المهاجمة من قتل مئات من الإرهابيين (تصل بعض التقديرات إلى نحو ألف) ومن إلحاق خسائر كبيرة في العتاد ومخازن الذخيرة في مواقع مختلفة من إدلب.
وما لا يقل إيلاماً للجانب التركي، هو نزوح أكثر من (300 ألف) من السكان من مواقع القتال، مع إمكانية نزوح أعداد أكبر إذا استمرت المعارك (عدد سكان إدلب أكثر من 3 ملايين نسمة) وهو ما يمثل كابوساً لأردوغان الذي يحاول تصدير مخاوفه دائماً إلى أوروبا، بتهديده بأنه سيفتح الحدود أمام اللاجئين للتدفق إليها.
هنا بدأ صوت أردوغان يرتفع بعد أن كان يلتزم الصمت في بداية المعارك الأخيرة، وبدأ يطالب بالوقف الفوري للقتال، والالتزام بحماية المدنيين، وأيضاً الالتزام باتفاق سوتشي.. علماً بأن هذا الاتفاق كان يقضي بإقامة منطقة عازلة ونزع سلاح المنظمات الإرهابية خلال أربعة أشهر «أي بحلول منتصف يناير 2018».. وهو ما حرص الكرملين على تذكير أنقرة به، وبأن اتفاق سوتشي لا يمكن أن يتحول إلى اتفاق دائم بما يكرس حماية المنظمات الإرهابية، وتحول تركيا إلى قوة احتلال لإدلب ومنطقة شمال غربي سوريا.
وأجرى أردوغان اتصالاً هاتفياً مطولاً ببوتين، كما أجرى رئيس الأركان التركي اتصالاً بنظيره الروسي لبحث وقف إطلاق النار.. لكن الجانب الروسي أعلن أن تركيا هي التي تتحمل مسؤولية وقف هجمات المسلحين.. ويبدو أن أردوغان كان يريد عقد قمة مع بوتين، لأن الكرملين أعلن أن الرئيسين سيلتقيان على هامش قمة ال20 باليابان في نهاية شهر يوليو.. أي بعد شهرين من الآن، أي أن بوتين ليس في عجلة من أمره للقاء أردوغان.
هل يصل الغضب بأردوغان إلى حد الاشتباك مع القوات السورية أو الروسية؟ لا نعتقد.. لأن المصالح المتبادلة التي جعلت موسكو تصبر على ألاعيب أنقرة في إدلب.. يوجد ما يناظرها لدى أردوغان، بدءاً من الغاز والتجارة والسياحة إلى صفقة صواريخ (إس - 400)، وأردوغان يواجه عقوبات أمريكية قاسية ألحقت ضرراً بالغاً باقتصاد بلاده. والمواجهة مع روسيا يمكن أن تكون فادحة التكلفة، خاصة في ظل الظروف التي أشرنا إليها.
لذلك نعتقد أن أقصى ما يمكنه، في ظل هذه الظروف، هو خوض نوع من «المواجهة بالوكالة» من خلال الاستمرار في دعم المنظمات الإرهابية بالأسلحة المتطورة التي أشرنا إليها «الدرون والصواريخ»، وتركها تخوض معركتها مع السوريين والروس، والقبول بقضم أجزاء معتبرة من إدلب.. إلى أن تتغير الظروف الحرجة الراهنة.. وهكذا تستمر لعبة «الصداقة الخشنة» بين موسكو وأنقرة حتى إشعار آخر.

* كاتب ومحلل سياسي- خبير في الشؤون الروسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"