اتفاق موسكو..السقوط في أول اختبار

01:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

لم تكد تبدأ محاولة تنفيذ الخطوة الجدية الأولى من «اتفاق موسكو» لوقف إطلاق النار في إدلب، حتى تعثر الاتفاق مثيراً التساؤلات حول إمكانية صموده!
الاختبار الجدي الأول للاتفاق كان فتح طريق حلب - اللاذقية الدولي «4 m»، وإقامة منطقة آمنة على جانبيه، تمتد بعمق ستة كيلومترات من الشمال ومثلها من الجنوب، ويتم إخلاؤها من الفصائل الإرهابية، وتسيير دوريات روسية - تركية مشتركة، لتأمين الحركة عبر الطريق، على أن تسيطر القوات الروسية على الجزء الجنوبي من المنطقة الآمنة، وتسيطر القوات التركية على جانبها الشمالي، وأن يبدأ تسيير الدوريات يوم الأحد (ال 15 من مارس).
لكن الدورية المشتركة الأولى وجدت أمامها حواجز وسدوداً وإطارات مشتعلة، وجماعات من الإرهابيين التابعين لتركيا، يتخذون من المدنيين دروعاً بشرية لهم، فقررت الدورية الروسية الانسحاب بعد إعطاء مهلة للقوات التركية لإبعاد الإرهابيين الموالين لها.. وهكذا سقطت عملية تسيير الدوريات المشتركة في أول اختبار.

تمثيلية هزلية

والواقع أنه كانت قد جربت «بروفة» لهذا المشهد قبل ذلك بيومين، حيث تجمع أعضاء وأنصار الفصائل الإرهابية تحت أنظار القوات التركية واعتصموا في أحد مواقع الطريق، معلنين أنهم لا يعترفون ب«اتفاق موسكو» ولن يسمحوا بإقامة منطقة آمنة، ولا بأي وجود للقوات الروسية أو السورية الحكومية في منطقتهم!
وباختصار فإننا أمام تمثيلية هزلية ممجوجة، تشرف عليها السلطات التركية، وتذكرنا بما حدث أيام «اتفاق سوتشي /‏ سبتمبر 2018» مع اختلاف التفاصيل والأماكن، فالمعروف أن كل الفصائل الإرهابية في إدلب، بلا استثناء، هي تحت سيطرة السلطات وأجهزة المخابرات التركية، التي جلبت هذه الفصائل أصلاً، والتي تمولها وتسلحها وتطعمها، وتدافع عنها، وتحركها كيفما شاءت، وتمثيلية «التمرد» على الإرادة التركية هذه يستحيل تصديقها. وهي تشير إلى أن نظام أردوغان قد وقع على «اتفاق موسكو» وهو لا ينوي تنفيذه.

الطريق المسدود

مشكلة أردوغان في ما يتصل ب«اتفاق موسكو» أن الاتفاق يمثل تسجيلاً للهزيمة السياسية والعسكرية التي نزلت به وبالفصائل الإرهابية الموالية له في معركة إدلب وحلب، وأنه اضطر للموافقة عليه تفادياً لهزيمة أكبر، بل وسعى إليها سعياً حثيثاً، ووجد نفسه مضطراً للقبول بوقف إطلاق النار حيث تقف القوات، والاعتراف بمكسب استراتيجي كبير لدمشق تمثل في استعادة السيطرة على محيط حلب وطريقها الدولي إلى العاصمة، وإعادة تشغيل المطار الدولي، والموافقة على فتح طريق حلب - اللاذقية، وحدث هذا بعد هزائم عسكرية وخسائر فادحة في الأرواح والمعدات لقواته وقوات الفصائل الإرهابية الموالية له، وبعد سقوط نحو ستين قتيلاً من جنوده - باعترافه هو - على يد الجيش السوري وحلفائه للمرة الأولى في تاريخ الصراع، وبعد الإهانة المذلة التي تعرض لها في الكرملين، وأذيعت وقائعها على الهواء.. بعد هذا كله كان طبيعياً أن يخسر كثيراً من رصيده السياسي أمام شعبه وحلفائه، وأن تكون مصداقيته على المحك.
ولأن أردوغان سياسي عنيد ومتغطرس ومغامر، وليس من النوع الذي يتعلم من هزائمه ومن دروس الواقع، فقد كان واضحاً منذ توقيع «اتفاق موسكو» أنه سيحاول الالتفاف على وضع الهزيمة التي تعرض لها.. فلجأ إلى الزج بحشود كبيرة من الجنود والآليات العسكرية إلى إدلب، وإلى نقاط المراقبة المحاصرة فيها، وتشجيع إرهابييه على انتهاك وقف إطلاق النار وإطلاق التهديدات هو ووزير دفاعه نحو دمشق.. والحديث عن «الاتفاق» باعتباره «اتفاقاً دائماً»، بما يعني عزمه على الاحتفاظ بالجزء المتبقي من إدلب تحت سيطرته. وباختصار التصرف كأنه منتصر أو على الأقل ليس مهزوماً! كما لجأ إلى مغازلة أمريكا والاستنجاد ب«الناتو»، ليأتيه الرد واضحاً: ندعمك معنوياً، لكننا لن نحارب معك أو نعطيك سلاحاً.

سياسة المراوغة والمماطلة

يشير كل ما ذكرناه، وخاصة حادث اعتراض الإرهابيين للدورية الروسية - التركية على طريق حلب - اللاذقية، إلى أن أردوغان يصر على الاستمرار في نهج المراوغة والتلاعب والتملص من الالتزامات والاستحقاقات، فطريق حلب - اللاذقية مثلاً يتسم فتحه وتأمينه بأهمية اقتصادية وعسكرية كبرى، وهي خطوة كانت مقررة منذ «اتفاقية سوتشي» 2018، لكن أردوغان الذي عطل هذه الخطوة طويلاً جداً، لا يزال يدفع إرهابييه للاستمرار في تعطيله حتى بعد النص عليه في «اتفاق موسكو» الأخير، وهذا موقف يفتح الباب لاستئناف المعارك، كما أن إقامة المنطقة الآمنة جنوبي الطريق يوجب نقل مدينتي أريحا وجسر الشغور إلى سيطرة القوات الروسية (السورية)، وهذا ما يرفضه إرهابيو أردوغان قطعياً، ويمكن بدوره أن يؤدي للتصعيد، وخاصة أن جسر الشغور تحديداً تتسم بأهمية كبيرة في تأمين اللاذقية وقاعدة «حميميم» الروسية من اعتداءات الإرهابيين المستمرة.
كما أن القوات السورية تمكنت من احتلال نقاط حاكمة في جبل الزاوية وجبل شحشبو الاستراتيجيين المطلين على ريف اللاذقية، وهو ما يجعل الإرهابيين دائمي التحرش بقوات الجيش في محاولة لحرمانهم من النقاط الحاكمة لينفرد بها الإرهابيون.. وهذا سبب آخر محتمل لاستئناف القتال. ومن ناحية أخرى فإن أردوغان يزود الإرهابيين بالطائرات المسيرة وصواريخ أرض - أرض القادرة على قصف اللاذقية وقاعدة «حميميم» الروسية الاستراتيجية.. وهذا سبب التوتر الدائم، وصحيح أن الدفاع الجوي الروسي نجح حتى الآن في صد جميع الهجمات، لكن هذا أمر مكلف جداً من ناحية، وتعتبره روسيا تطاولاً على هيبتها ومكانتها من ناحية أخرى، وهذا سبب آخر للتوتر الدائم، وقد لام بوتين أردوغان بشدة على ذلك، ولعله من أسباب تعمد إهانته في الكرملين.
وتمثل كل هذه الأوضاع انتهاكات لكل من اتفاقي سوتشي وموسكو، ودافعاً أساسياً لكل من سوريا وروسيا للإسراع بضرب الإرهاب والعمل على استئصال شأفته، والحقيقة أنه لا توجد دولة في العالم لديها استعداد لتحمل مثل هذه الأوضاع والأنشطة الإجرامية، ما دامت تملك القدرة على ردعها.
لهذا نقول: إن التساؤلات والشكوك تحيط بإمكانية استمرار «اتفاق موسكو» طويلاً، وخاصة أنه تعثر في أول اختبار جدي له، اللهم إلا إذا استخلص أردوغان درساً من نتائج المعارك الأخيرة، وهذا أمر مشكوك فيه.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"