احترس من الألعاب الإلكترونية

02:46 صباحا
قراءة 7 دقائق
** الشارقة: عبير حسين

تصدح إيقاعات موسيقية صاخبة وسط هتافات حماسية تشجع اللاعب على إحراز الفوز الثمين عبر التخلص من منافسه بأي ثمن، إما بقتله وإما دهسه أو إلقائه من أعلى الجبل (فورتنايت مثلاً)، وفي أحيان أخرى يجد نفسه وسط أجواء رعب غامضة يطارد أشباحاً في منتصف الليل في غابات يلفها الضباب وتمرح فيها الضواري، بينما تقدم ألعاب أخرى أجواء أسطورية يحارب فيها اللاعب التنين المجنح والديناصور المنقرض، كما تقدح ألعاب «جانب الشر» لدى اللاعبين فتحثهم على ابتكار أفضل السبل للسطو على البنوك، أو سرقة مجوهرات نادرة، وتدبر أمر فرارهم من الشرطة بأنفسهم.
هكذا سيل لا ينتهي من ألعاب الفيديو والإلكترونية المبتكرة التي تدفع لاعبيها إلى التحقق وإثبات الذات عن طريق إيذاء الآخرين، بينما تبقى أكثرها قسوة وغرابة هي تلك التي تدفعهم إلى الانتحار وأخطرها «الحوت الأزرق»، و«مريم»، و«ببجي» إلى الحد الذي دفع بمنظمة الصحة العالمية إلى تصنيف اللاعبين المفرطين في ممارسة الألعاب، والتي يعتبرونها أولوية على أية مصالح حياتية أخرى مصابين بمرض «اضطراب الألعاب» والذي صنف رسمياً منذ منتصف العام الماضي باعتباره «حالة صحية عقلية غير مستقرة».
ومع التطور الهائل لتلك الألعاب، واجتذابها وتأثيرها في عشرات الملايين من اللاعبين كل عام، والتي أضافت لها تقنيات هوليوود أبعاداً سينمائية لانهائية من الإبهار والإخراج والحركة والموسيقى التصويرية التي تؤديها أحياناً أوركسترا كاملة من العازفين، أصبحت عالماً ضخماً تجاوز خيال الشاشات، وترويض الفراغ، ليشكل ما أطلق عليه تيري فلو أستاذ علوم الاتصال في كلية الصناعات الإبداعية بجامعة كوينزلاند للتكنولوجيا في استراليا «ثقافات فرعية ما بعد الحداثة»، مؤكداً أن قضايا العنف، والاستلاب، والاغتراب، والعزلة الاجتماعية ليست بالموضوعات الأهم داخل مجتمعات اللاعبين الذين يثير عالمهم الخاص أفكاراً أخرى مثل «الطقوس المشتركة»، و«الخطاب الجماعي» الذي يميز ممارسي كل لعبة عن الأخرى، إضافة إلى ظهور «ثقافة غذاء» خاصة بهم يتشاركون فيها أنواع معينة من الأطعمة التي ترفع من حماستهم، وتزيد من متعتهم، ولا تتسبب في زيادة أوزانهم خلال اللعب، ودفع ذلك إلى تطوير خبراء التغذية أنماطاً خاصة من الأنظمة الغذائية للاعبين تختلف بحسب المراحل العمرية، وعدد ساعات اللعب، وأنواع الألعاب وغيرها.

ثقافة ذكورية

أما القضية الأهم الأكثر إثارة اليوم داخل «مجتمعات اللاعبين» فهي «التحيز» القائم على النوع أو العرق، وعادة فالنساء هدف سهل للآخرين. وبالرغم من تغير التركيبة الديموجرافية لألعاب الفيديو منذ التسعينات من القرن الماضي والتي كانت تعتبر الشباب المستهلك الأول لها، وحتى أحدث الإحصاءات التي أشارت إلى أن النساء أصبحن يشكلن نصف عدد اللاعبين منذ 2010، إلا أنهن ما زلن الطرف الأضعف في مجتمع اللاعبين، والأكثر عرضة للتحرش والتنمر.
مطور الألعاب الهولندي إيان جاوكس أشار إلى أن سبب هذا التحيز هو«ثقافة المعلوماتية التي تخضع لسلطة ذكورية»، وقال «ليست الألعاب هي التي تضم تحيزاً جنسياً، لكنه سوق العمل الذي نحن فيه يفرض علينا برمجة ألعاب تناسب السوق الذي يرى فيه الذكور أنه من المستحيل إيجاد فتاة للمنافسة في لعبة أون لاين». كما تثار قضايا التمييز العرقي تجاه أصحاب البشرة السمراء مثلاً. إضافة إلى العنصرية والكراهية، وهنا تعد لعبة «دورية حرس الحدود» Border Patrol
من أكثر النماذج الصارخة على بث الكراهية، وتصور المكسيكيين باعتبارهم مهربي مخدرات، وتجار في البشر، وعلى اللاعبين (الجنود) إطلاق الرصاص على كل من يصادفهم حماية للحدود الأمريكية.

صحافة ومجلات رقمية

ويكتمل هذا العالم بوجود صحافة خاصة به، من مجلات رقمية تتابع كل جديد في عالمها، ولها نجومها من أصحاب السبق المعروفين بتغطية أخبار أحدث الألعاب، والمسابقات، مع حوارات خاصة لأشهر اللاعبين الفائزين إما ببطولة العالم للألعاب الإلكترونية، أو كأس العالم الخاص ببعض اللعبات الأكثر شعبية وأحدثها «فورتنايت» التي حصل صاحب المركز الأول بها على 3 ملايين دولار، ووضعت مبتكرها على قائمة أثرياء العالم بعد حصده 7 مليارات دولار خلال عامين فقط من إطلاق اللعبة، التي يصل عدد لاعبيها 200 مليون، يتنافسون خلالها للبقاء على قيد الحياة على جزيرة نائية، والفائز من ينجح في قتل ال100 لاعب الآخرين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن «فورتنايت» من أحدث الألعاب المثار حولها الكثير من الانتقادات، فالفائز بالمركز الثاني في منافستها العالمية التي اختتمت الشهر الماضي في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة، مراهق انجليزي يبلغ 13 عاماً شجعته والدته على ترك مقاعد الدراسة للتفرغ لإجادة اللعبة التي حصد بفضلها 1.5 مليون دولار. وقبلها اضطرت عائلة بريطانية إلى إيداع طفلتها التي لم تتجاوز التاسعة من العمر، مصحة خاصة لعلاج إدمانها اللعبة التي تسببت بتراجع أدائها الدراسي، وتدهور صحتها العامة، وتراجع قواها الإدراكية، ووصل الأمر حد فقدانها السيطرة على نفسها وتفضيلها قضاء حاجتها جالسة، إضافة إلى إصابتها بنوبات عنف هاجمت خلال إحداها والدها عندما طالبها بالتوقف عن اللعب. ويبقى الأمر الأكثر إثارة إن الاختصاصي النفسي في المصحة وضع برنامج علاج يعتمد على تحديد المدة التي تلعب فيها الفتاة بال«فورتنايت» بما لا يزيد على 10 ساعات يومياً.
أما الأمريكي دوجلاس ستيوارت (27 عاماً) فلم يكتف بقتل زوجته فينوس بدم بارد قبل 8 سنوات، لكنه رفض طوال هذه المدة الإفصاح عن مكان الجثة. ورغم كل جهود البحث والتفتيش التي أجرتها شرطة مقاطعة واكشيما في ولاية ميتشجان، لم تنجح في العثور على رفات الزوجة، ولم تجدِ كل توسلات والديها في إقناع القاتل بالكشف عنها لمنحها قبراً لائقاً. ارتكب ستيوارت جريمته في 2011، وباعترافه المباشر للشرطة حصل على حكم سريع من المحكمة بالسجن 25 عاماً، إضافة إلى 15 أخرى لرفضه الإفصاح عن مكان الجثة، وأودع سجن Saginaw طوال الأعوام الماضية. بعد تولي الاختصاصي النفسي كريس جونز عمله الجديد في السجن، قرر البدء بحالة ستيوارت المثيرة للاهتمام، خاصة أن سجله الجنائي نظيف، ولم يتحدث أبداً عن السبب الذي دفعه للتخلص من زوجته، كما تشير فحوصه الطبية إلى سلامة قواه العقلية. وبالفعل نجح جونز في الجلسة الأولى في إقناع الزوج القاتل بالإفصاح عن مكان جثة زوجته مقابل منحه ميزة اللعب بجهاز «إكس بوكس» 30 دقيقة يومياً. وانتقلت قوات الشرطة إلى المكان الذي حدده الزوج، وبالفعل عثرت على رفات بشرية، نجحت اختبارات طب الأسنان لعلماء الأنثروبولوجيا الطبية في جامعة ويسترن ميتشيجان في إثبات أنها تخص الزوجة الراحلة، ليعترف لاحقاً أنه قتلها لإزعاجها، واعتراضها المستمر على قضائه ساعات طويلة في ممارسة الألعاب الإلكترونية.
وفي عام 2015، لقي شخصان من تايوان في الثلاثينات من العمر حتفهما في أحد مراكز الألعاب الإلكترونية في العاصمة تايبيه، بعد انهماك كل منهما (الأول 5 أيام)، والثاني (3 أيام) متواصلة في مارثون للعبة Diablo
3 انتهى بإصابة كل منهما بأزمة قلبية حادة.
أما الأمريكي بيتر بيركوسكي من ولاية إلينوي، فدفع حياته ثمناً لإدمانه لعبة Friar Tuck›s بعد بقائه 40 ساعة متواصلة في محاولة تجاوز الرقم القياسي الذي حققه لاعب آخر، لينتهي به المطاف مصاباً بأزمة قلبية. وانتهى الحال بالشاب البريطاني العشريني كريس ستانفورث مصاباً بعدة جلطات في الرئة والقدم بعد تسمره في مقعده أكثر من 12 ساعة متواصلة بدون حراك لممارسة لعبة Halo، وتبقى قصة الصيني الذي أشتهر ب«لاعب تشاويانج» أكثر المآسي التي تروى عمن دفع حياته ثمناً لإدمانه على الألعاب الإلكترونية، بعد قضاءه 650 ساعة (حوالي 27 يوماً) متواصلة في أحد مراكز الإنترنت للمنافسة على عدة ألعاب، لم يتناول خلالها سوى النودلز والمياه.
حظر
تخضع الألعاب الإلكترونية في كل الدول العالم، لتصنيفات مختلفة بحسب الفئة العمرية المستهدفة، كما تراقب لجان متخصصة كل أنواع الألعاب سواء الفيديو، أو الإلكترونية، وحديثاً الافتراضية، ويحق لكل دولة فرض حظر على تلك التي تتعارض مع قوانينها ونظمها الاجتماعية والسياسية.

متلازمة العالم اللئيم

كثيراً ما يلقي المجتمع اللوم على ألعاب الفيديو والإلكترونية بوصفها مسؤولة عن توجيه اللاعبين نحو العنف، ودفعهم إلى ارتكاب حوادث القتل، أو الجرائم المختلفة، إضافة إلى توليد أفكار عدوانية وسلوكيات معادية للمجتمع، إلى حد شيوع مصطلح «التوحد الإلكتروني» الذي يتحول فيه اللاعبون إلى شخصيات انطوائية، تميل إلى الاكتئاب والعزلة وتعاني الأرق متوحدة بالكامل مع الواقع الافتراضي. ويدعم هذا الرأي مسحاً أجرته منظمة الصحة العالمية ونشر قبل عامين في مجلة«علم النفس الإلكتروني»، لمعرفة أسباب ارتفاع معدلات الانتحار في المرحلة العمرية بين 15 إلى 29 وكانت من أهم دوافع شعور الشباب بالضياع هي إدمان الألعاب الإلكترونية خاصة التي تحث على العنف.
من ناحية أخرى، يدافع باحثون متخصصون عن الدور الإيجابي لتلك الألعاب، مؤكدين دورها في تحسين الإبصار، وسرعة التعلم، وتطوير التركيز الذهني، وزيادة الوعي بالمكان، ودقة التقدير.
الباحث دوجلاس جينتلي من جامعة ولاية ايوا، وريتشارد ديفيدسون عالم الأعصاب في جامعة «ويسكونسن ماديسون» بالولايات المتحدة يؤكدان أن ألعاب الفيديو ليست جيدة أو سيئة بطبيعتها، بل يمكن أن تكون مفيدة أو تسبب بعض المشكلات بحسب اختلاف الثقافات والفئات العمرية للاعبين، ويتوقف ذلك على مضمونها. وأشارا إلى أن الطفل عليه لعب دور البطولة في اللعبة من أجل الفوز وإحراز مراكز متقدمة، لذلك يعمل على تطوير أساليب العنف ليربح نقاطاً أكبر، وينتقل من مستوى إلى مستوى أعلى، بينما هو عملياً ينتقل من مستوى عنيف إلى مستوى أكثر عنفاً، وهنا تصبح الخطورة عندما يتأثر ذهن الطفل وسلوكه بالأعمال العنيفة، فيصبح بعد فترة أقل تحسساً تجاهه فينقله إلى واقعه وهو ما يطلق عليه علمياً متلازمة «العالم اللئيم» .
عالمة الأعصاب في جامعة «روتشستر» بمدينة نيويورك دافني بافيلير قالت: «تظهر النقاشات حول ألعاب الفيديو تمسك كل طرف برأيه ، ولذا يرى باحثون ضرورة تجاوز التعميمات، وعدم جمع كل الألعاب في سلة واحدة على الرغم من الاختلافات فيما بينها، فالعمليات التي تجري داخل أدمغة اللاعبين ليست واحدة في الأنواع المختلفة مثل سباقات السيارات أوالألغاز أوإطلاق النار ومطاردات الشوارع. نحن لا نناقش إذا كان الطعام مفيداً أو لا، بل علينا فرز النوع الجيد من الرديء».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"