الأزمة السورية.. متغيرات أوروبية جديدة

04:07 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور

التطورات الكبيرة التي شهدها مسار الحرب في سوريا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وبصورة أخص خلال الشهور والأسابيع الأخيرة، كان لها انعكاساتها المهمة على المواقف الأوروبية من الأزمة السورية وسبل معالجتها. وبالرغم من أن هذه المواقف الأوروبية تنطوي على تناقضات لا يستهان بها، أو تتباين بدرجات متفاوتة بين عاصمة دولة كبرى وأخرى، فإن الاتجاه العام لها أصبح واضحاً في تخليه عن شرط إزاحة الرئيس السوري بشار الأسد وأركان نظامه عن السلطة كشرط للدخول إلى مرحلة الانتقال السياسي.. بل وتقبل بمشاركته في الانتخابات الرئاسية القادمة في حال التوصّل إلى تسوية سياسية.
بدأت الدول الأوروبية الكبرى، وخاصة ألمانيا وفرنسا، تظهر مرونة أكبر تجاه تقديم مساعدات إنسانية للمناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، وبحث مسألة المشاركة في إعادة الإعمار مع تقدم التسوية السياسية، بعد أن كانت كل هذه الموضوعات مرفوض مجرد الحديث عنها قبل رحيل الأسد عن السلطة.
وزير الخارجية البريطاني السابق بوريس جونسون - الذي استقال مؤخراً - عبّر عن هذه الفكرة بوضوح بقوله: «لقد كنا في السابق ملتزمين بالرأي القائل بضرورة رحيل الأسد، لكننا يجب أن نكون واقعيين، في ضوء التطورات التي جرت على الأرض».. «لم نكن قادرين على تحقيق ذلك».
أما وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، فقد صرّح بأن «الأسد قد كسب الحرب، لكنه لم يكسب السلام»، وطرح ضرورة التسوية السياسية وتغيير الدستور، وإجراء انتخابات حرة لكي يمكن الحديث عن السلام.. ولنلاحظ أنه تحدث عن تغيير الدستور، وليس عن إعداد دستور جديد.
كما أن فرنسا قدّمت في بداية صيف 2018 مساعدات إنسانية تبلغ نحو 50 طناً من الأدوية والمستلزمات الطبية وغيرها، نقلتها الطائرات الروسية من باريس إلى سوريا ليتم توزيعها في منطقة الغوطة الشرقية.وأخيراً - وهذا هو الأهم - أعلنت كل من ألمانيا وفرنسا موافقتهما على عقد قمة رباعية مع روسيا وتركيا قريباً، لبحث سبل التقدم في تحقيق التسوية السياسية في سوريا، وكذلك المساعدات الإنسانية وعودة اللاجئين وإعادة الإعمار.
إذاً، فإن الدول الأوروبية الكبرى «ألمانيا وبريطانيا وفرنسا» تبدي استعداداً غير مسبوق للاحتضان ودفع عملية التسوية في سوريا إلى الأمام، مع حرصها على تأكيد أن إتمام التسوية بصورة نهائية لا بد أن يتم عبر محطة جنيف وبإشراف الأمم المتحدة ومبعوثها العتيد، ستيفان دي ميستورا، دون أن يمنع هذا من التعامل مع مخرجات «مسار أستانة» الذي دشنته روسيا وتركيا وإيران، والذي تم في إطاره التوصل إلى «اتفاق سوتشي» بين موسكو وأنقرة.. وهذا تغير كبير في المواقف الأوروبية.
وبديهي أن هذه التطورات تجري على خلفية «الوضع على الأرض» الذي تحدّث عنه وزير الخارجية البريطاني السابق جونسون في حينه.. ونعني هنا قبل كل شيء أن جيش النظام السوري قد أصبح يسيطر على أكثر من 70% من أراضي البلاد، بدعم قوي من روسيا التي أصبحت لها اليد الطولى عسكرياً في سوريا، ومن ناحية أخرى فإن الولايات المتحدة - ومعها.. وتحت إشرافها - «قوات سوريا الديمقراطية» - «قسد» تسيطر على المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من البلاد، محافظات «الحسكة والرقة - والأجزاء الشمالية من محافظة حلب، وأجزاء من دير الزور»، ولديها نحو عشرين قاعدة في هذه المناطق، ما بين جوية وبرية، وحيث توجد أيضاً قوات فرنسية غير كبيرة، لكن لها أهمية سياسية لا يستهان بها.. بل تطمح باريس لأن تقوم هذه القوات بعد دعمها بملء الفراغ في هذه المنطقة في حال انسحاب القوات الأمريكية.
كما تسيطر قوات أمريكية أساساً «ومعها قوات بريطانية وعدد محدود من النرويجيين» على قاعدة «التنف» على المثلث الحدودي السوري- العراقي- الأردني والمنطقة المحيطة بها، والتي يبلغ قطرها «100 كم»، وكذلك على «مخيم الركبان» القريب منها. وتعلن أمريكا بكل وضوح أن سيطرتها على المنطقة الشمالية والشمالية الشرقية ضرورية لمنع نشوء «ممر إيراني»، يمتد من طهران إلى بيروت على البحر المتوسط عبر سوريا.. وأنها لن تجلو عن المنطقة قبل خروج القوات الإيرانية من سوريا.. وأخيراً أعلنت أنها لن تخرج قبل إجراء الانتخابات في البلاد!! وعلاوة على ذلك كله، فهناك بالطبع الوجود البحري الغربي في البحر المتوسط.
وباختصار فإن الدولتين الكبريين الأوروبيتين «ألمانيا وفرنسا» إذا كانتا تقتربان من التسوية السورية بدرجة أكبر مما تفعل الولايات المتحدة مثلاً، فإنهما تقتربان وفي أيديهما أوراق ضغط عسكرية «أمريكية وغربية».. ولا بد أن يكون واضحاً أن فرنسا بالذات لديها أطماع في النفط والغاز السوريين، ولتحقيق نفوذ في دولة تعتبرها باريس من مستعمراتها القديمة!
ولا تقل أوراق الضغط السياسية والاقتصادية أهمية عن نظيرتها العسكرية، فسوريا في أمسّ الحاجة إلى المساعدات الإنسانية والاستثمارات الضرورية لإعادة الإعمار، «تقدرها الأمم المتحدة بنحو 400 مليار دولار» من أجل إعادة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم، وإعادة بناء الاقتصاد المدمّر.. وهذه مبالغ طائلة لا تقدر روسيا إلا على أجزاء ضئيلة منها، وخاصة في ظل أوضاعها الاقتصادية الراهنة.. وكذلك إيران بالطبع إذا كانت ستقدر على شيء أصلاً.
وإذا كانت الولايات المتحدة تتشدد بالصورة التي نراها، فإن دمشق بحاجة شديدة إلى «جواز المرور» الألماني - الفرنسي إلى أسواق واستثمارات وتكنولوجيا البلدين، ومن ورائهما الاستثمارات والمساعدات الأوروبية.
لكن دمشق لن تحصل على جواز المرور هذا بدون تحقيق تقدّم معتبر في التسوية، وكذلك في مسألة الوجود الإيراني في سوريا، الذي يجد قلقاً غربياً كبيراً.. وبديهي أن الولايات المتحدة ستظل تحتفظ لنفسها بحق مراقبة كل هذه العملية وإبداء الرأي فيها، وهو رأي لا تملك أوروبا إلا أن تقيم له اعتباراً كبيراً، إن لم يكن كل الاعتبار!
وبالطبع فإن الدول الأوروبية تظل لديها اعتباراتها الخاصة في التسوية السورية بحكم الجوار الجغرافي.. وخاصة ألمانيا التي لديها أكثر من «700 ألف» لاجئ سوري، فإنجاز التسوية في سوريا من شأنه أن يوقف موجات الهجرة السورية الواسعة إلى أوروبا، وأن يهبط بها إلى معدلات مقبولة، وأن يقلّص من حجم مشكلة تؤرق مضاجع الأوروبيين، وهذا أهم ما يفسر ترحيبهم الكبير «باتفاق سوتشي» حول إدلب. ومن ناحية أخرى فإن الوجود المسلّح في إدلب يمثّل بالنسبة لهم - وللمنطقة والعالم - قنبلة موقوتة شديدة الخطورة لا بد من التعاون مع تركيا وروسيا لتفكيكها، وخاصة بالنسبة للدول التي لديها «مواطنون» مسلحون يمكن أن يعودوا إليها.. وهذه قضية بالغة التعقيد تقتضي تعاوناً مخابراتياً وثيقاً مع أنقرة وموسكو ودمشق أيضاً. وقد آن الأوان لمعالجتها.. فليس وراء إدلب إلا تركيا.. ومن ثم أوروبا.
ولهذه الأسباب كلها نقول إن الاقتراب الأوروبي من سوريا والتسوية فيها، يجيء في وقته المناسب تماماً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"