الاستيطان.. «وعد بلفور» أمريكي

03:44 صباحا
قراءة 4 دقائق
حلمي موسى

لم يتردد السفير الأمريكي لدى الاحتلال ديفيد فريدمان في توفير الغطاء السياسي للاستيطان ولسياسة رئيس الحكومة «الإسرائيلية» بنيامين نتنياهو. وفي رده على سؤال بشأن وعد نتنياهو الانتخابي بشأن ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى الكيان في المرحلة المقبلة، قال فريدمان في مقابلة مع «نيويورك تايمز»: إن ل «إسرائيل» الحق في الاحتفاظ بأجزاء من الضفة الغربية، ولكن ليس كلها.
وفر هذا الإعلان الصريح الضوء الأخضر القوي من الإدارة الأمريكية لليمين الصهيوني لتنفيذ مطمحه، الذي بدأ بالاستيطان، لضم الضفة الغربية. وبديهي أن هذا الإعلان استفز الأعصاب الأشد بعداً عن الحساسية لدى الفلسطينيين والعرب لدرجة دفعت إلى تسمية جمعة مسيرات العودة الأخيرة بجمعة «لا لضم الضفة الغربية وليخرس فريدمان».
ولا بد من الإشارة أولاً إلى أن كلام فريدمان لم يشكل مفاجأة كبيرة لأحد، ولم يتعامل أحد معه على أنه زلة لسان، بل هو واحدة من توجهات الإدارة الأمريكية. فبعد الخطوات عميقة الأثر التي أقدمت عليها إدارة ترامب لمصلحة الكيان من إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، إلى الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال، إلى وقف دعم الأونروا، إلى الاعتراف بالسيادة الصهيونية على هضبة الجولان السورية المحتلة، يبدو كلام فريدمان ضمن السياق. والواقع أن هذا الكلام يعبر بشكل واضح عما سبق للرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن أن تعهد به لرئيس الحكومة الأسبق أرييل شارون بشأن تفهم ضم الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية ل «إسرائيل» في أي تسوية مستقبلية. وسبق لوزير الخارجية الأمريكي الحالي مايك بومبيو أن مهد لكلام فريدمان بشأن وعد نتنياهو الانتخابي حينما رد حتى على تحفظات يهودية أمريكية بالقول: إن ليس في تعهد نتنياهو الانتخابي ما يضر ب «صفقة القرن».
ولا حاجة للقول: إن الموقف الأمريكي، سواء تعهد بوش أو تصريح فريدمان، يتعارض مع القانون الدولي الذي لا يجيز ضم أراضي الغير بالقوة، وحتى مع الموقف الأمريكي الرسمي الذي كان يرفض فرض وقائع على الأرض من طرف واحد. ولكن إدارة ترامب التي أخذت على عاتقها محاولة تغيير العالم وفق إرادة أمريكية خالصة بعيداً عن الشرعية الدولية تحاول البدء من الصراع العربي «الإسرائيلي» انطلاقاً من إيمان بأن حماية الكيان «مهمة إلهية».
وقد وصف معلق الشؤون العربية في «هآرتس»، تسفي بارئيل أثر كلام فريدمان بالقول: إنه «لم يبقَ لحكومة إسرائيل أي ذريعة لتجنب ضم الضفة الغربية. إذ نالت التسويغ النهائي من السفير الأمريكي الذي منحها التفويض لإنشاء دولة ثنائية القومية.. وقرر بلفور الأمريكي أنه في ظروف معينة، أعتقد أن لإسرائيل الحق بالاحتفاظ بأجزاء من الضفة الغربية، ولكن ليس كلها، ولم تسقط السماء». صحيح أن اليسار شعر قليلاً بالصدمة، لأن كلام فريدمان يصادر منه أسس وجوده، لكن الإجماع السعيد الذي يجمع محاور الوسط، اليمين، اليمين المسيحاني، ظل متماسكاً.
وقد احتار الوزير «الإسرائيلي» السابق ومن أعمدة اتفاق أوسلو، يوسي بيلين، في مغزى كلام فريدمان، فكتب مشيراً إلى تناقض هذا الكلام مع القرارات الدولية. واستدرك بالقول: إن «المسألة لا تكمن فقط في مجال القانون الدولي وفي خطاب الحقوق. أفترض أن فريدمان يؤمن بأن لإسرائيل حقاً تاريخياً على البلاد كلها، وأن هذا الحق يقف فوق كل إجماع دولي وقرارات حتى تلك التي وافقت إسرائيل عليها في الماضي». وأوضح أنه إذا كان فريدمان لا يأخذ بالحسبان الموقف الدولي ولا المصلحة الفلسطينية، فإنه كان ينبغي أن يراعي المصلحة «الإسرائيلية»، حيث لا مصلحة للكيان في ضم مناطق تبقي في داخله «قنبلة موقوتة» ديموغرافية.
في كل حال فتحت تصريحات فريدمان الباب واسعاً أمام أنصار الضم في الكيان للتعبير عن مدى نجاحهم في «تصويب» الموقف الأمريكي، وإثبات حقهم «التاريخي». وقد اعتبر البروفيسور أرييه ألداد، وهو من منظري اليمين الأشد تطرفاً، أن إدارة ترامب تمنح بذلك حكومة الكيان فرصة تاريخية لمنع إنشاء دولة فلسطينية. وأشار ألداد إلى أن تصريح فريدمان أكثر أهمية حتى من الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان.
وكانت حركة ميرتس الوحيدة من بين الأحزاب اليهودية، التي نددت بتصريحات فريدمان. إذ أعلنت زعيمة الحزب، تمار زندبرغ «طالما أن فريدمان هو سفير أمريكا في «إسرائيل» وليس في دولة المستوطنات، فعليه أن يعلم أن الضم كارثة على دولة إسرائيل».
وأعلنت حركة «السلام الآن» أن «السفير فريدمان هو حصان طروادة مبعوث من اليمين الاستيطاني ليخرب مصالح «إسرائيل» وفرص السلام». وأضافت الحركة أنه «مع أصدقاء مثل فريدمان، من بحاجة إلى أعداء؟ فكل ذي بصيرة يعرف أن ضم الضفة الغربية سيقود المنطقة إلى كارثة وخطر فعلي على وجود «إسرائيل» كدولة يهودية وديمقراطية».
ومعروف أن كل القوى السياسية الصهيونية تقريباً رحبت بتصريحات فريدمان. فاليمين الحاكم اعتبرها واحدة من إنجازاته، حيث أكد أنه كان وراء إقناع الإدارة الأمريكية باتخاذ موقف كهذا. واليمين المتطرف رأى فيها التفافاً على تحفظات وتردد اليمين الحاكم، وتأييداً لمنطقه المتطرف في نشر الاستيطان في أرجاء الضفة الغربية ومطالبته بفرض السيادة أو القانون اليهودي عليها. أما حزب المعارضة الرئيس، «أبيض -أزرق»، فأشار إلى أن تصريحات فريدمان تؤكد صوابية موقفه من الكتل الاستيطانية.
ورد الفلسطينيون رسمياً وشعبياً بغضب على تصريحات فريدمان الاستفزازية. وكما سلف أعلنت الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة عن جمعة غضب تحت شعار «لا لضم الضفة وليخرس فريدمان». كما أجمعت الفصائل والفعاليات الوطنية الفلسطينية حول رفض هذه التصريحات، واعتبارهاً تأييداً لليمين المتطرف الصهيوني. وقال الناطق بلسان الحكومة الفلسطينية: إن فريدمان أكد بتصريحاته أنه سفير للاستيطان، وإنه يعكس حجم الارتهان الأمريكي لنوازع الغطرسة، وشهوة التوسع «الإسرائيلية». وأكد الناطق باسم حركة حماس، حازم قاسم: إن تصريحات فريدمان تعبر عن عمق المشاركة الأمريكية في العدوان على الشعب الفلسطيني، واستهدافها لمكونات القضية الفلسطينية.
وأجمعت القوى الفلسطينية على أن مجابهة تصريحات فريدمان تندرج ضمن خطة مجابهة صفقة القرن، والتي تتطلب موقفاً عربياً واضحاً وحشداً أممياً قوياً. وتستند الخطة الفلسطينية لمواجهة صفقة القرن إلى مبدأ المواجهة الميدانية مع الاحتلال من جهة، ومحاولة كسب التأييد العربي والدولي من جهة أخرى. غير أن ما يضعف هذه الخطة أكثر من أي شيء آخر هو عجز الفلسطينيين حتى الآن عن استعادة الوحدة وإنهاء الانقسام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"