البشر عمارة المنازل

02:47 صباحا
قراءة 7 دقائق

«نشأ الفن مع الإنسان منذ أن بدأت الحياة الإنسانية»، تلك المقولة تحتاج إلى توضيح أكثر، فمن الطبيعي أن يكون الإنسان في أولى مراحل حياته على الأرض، مشغولاً باستكشاف وسائل وأدوات تعينه على الحياة، لكنه عندما أوجد الفن كشف لنفسه وسيلة لإثراء حياته، فهناك قبائل بدائية كانت ترقص رقصاً محموماً قبل الصيد، وكان ذلك يؤدي إلى الشعور بالقوة، كما أن رسوم الحرب كانت تؤدي إلى تحفيز المحاربين، وإرهاب العدو.

وإذا نظرنا إلى رسوم الحيوانات على جدران الكهوف التي سكنها الإنسان الأول وجدنا أنها كانت تبعث في نفس الصياد الشعور بالتفوق، وكان الفن سلاحاً في يد الإنسان أثناء صراعه للبقاء، وكانت التصورات السحرية لديه تجعله يشعر بأنه ضعيف أمام الطبيعة والمجهول، ولم يكن الفن البدائي نمطاً واحداً، فقد كان يختلف باختلاف الظروف، والمكان، والزمان.

كان الكهف هو المقر الأول لسكنى الإنسان البدائي، الذي انتقل في مرحلة تالية إلى الكوخ المصنوع من فروع الشجر، وكانت المرحلة الثالثة التي وضعته على أعتاب الحضارة، حين ابتنى لنفسه مسكناً، أو بيتاً، وصاحب كل مرحلة من هذه المراحل أسلوب مختلف في الحياة، ففي مرحلة سكنى الكهوف كان الإنسان يعيش على القنص، وفي مرحلة الأكواخ كان يعيش على رعي الماشية، وفي المرحلة الأخيرة كان يعيش على الزراعة، وكل أسلوب من أساليب هذه الحياة يقتضي تغيراً في نوع العلاقة التي تربطه بالطبيعة، وبغيره، ومع هذه التغيرات كان أسلوب الفنان يتغير.

من ذلك أن الإنسان في مرحلة الكهوف والصيد غلبت على رسومه صور الحيوانات، ومع الانتقال إلى الكوخ ورعي الماشية غلبت على إنتاجه تماثيل الحجارة والعاج والعظم، منحوتة أو محفورة، أو مشكّلة من الطين، وفي مرحلة الاستقرار والزراعة اهتدى إلى بناء مسكنة بقوالب من الطين، وفي هذه المراحل كان الفن جماعياً، ولم يشذ عن ذلك إلا ظهور الساحر والكاهن، وكان عملهما ضرباً من الفن، وكانت أعمال الإنسان آنذاك يتحقق فيها نوع من الإيقاع والانسجام بين الخطوط والأشكال والألوان.

الثورة الصناعية

في كتابه «الفنون البصرية وعبقرية الإدراك» يتوقف الدكتور شاكر عبد الحميد، أمام فن العمارة، باعتباره يتعامل كالنحت، مع المكان ثلاثي الأبعاد، وغالباً ما يستخدم الفنانون التشكيليون المكان عنصراً إيجابياً، في تكوينهم وتصاميمهم، وكما قال المعماري الشهير «فرانك لويد رايت» فإن «المباني الجيدة هي تلك المباني التي تجعل المنظر الطبيعي أكثر جمالاً مما كان عليه من قبل».

وأشارت إحدى الدراسات النفسية إلى أهمية البعد الجمالي في المباني، بل إن بعض الباحثين وجد أن المباني الجميلة والمناظر العامة تعمل على الإسراع في عملية شفاء المرضى، وتقوّي شعور الأفراد بالمواطنة والانتماء، وتقلل من معدلات الجريمة، وترفع من مستوى الإنتاج والشعور العام بالسعادة، والإقبال على الحياة.

وأدت الثورة الصناعية إلى حدوث تحولات عميقة في مجال العمارة، حتى إن معمارياً كبيراً يصف مصنعاً للتبغ أقيم في مدينة روتردام، قائلاً: «هكذا ترتفع الواجهات الصافية للمبنى بزجاجه اللامع ومعدنه الرمادي، إنه يقف هكذا في مواجهة السماء، كل شيء مفتوح على الخارج، إن هذا شيء، بالغ الدلالة بالنسبة إلى العاملين في هذا المبنى، وفي الطوابق الثمانية وبداخله، إن مبنى هذا المصنع هو أحد إبداعات العصر الحديث، لقد أزال، أو استوعب الدلالات السابقة لليأس من العالم الخاص بالطبقة العاملة».

وقد بنيت آلاف المباني عبر العالم، بهذه الطريقة، وحرص كثير من المعماريين على التخفيف من الطابع البصري الحاد لمثل هذه المباني، بأن جعلوا حولها بعض الحدائق الصغيرة، أو الأشجار، أو الزهور، أو النوافذ، وتوالت الإضافات، وأصبحت المباني فيما يسمى «عمارة ما بعد الحداثة» أكثر ميلاً إلى أن تكون تعبيرية وفردية (نحتية)، فبعض عمارة ما بعد الحداثة يتسم بإثارة الحواس والنزعة الزخرفية، وبعضها يشير إلى أساليب تاريخية ماضية، والبعض يتسم بالحيوية والمرح والخيال.

مع ذلك، فإن بعض النقاد يقولون إن عمارة ما بعد الحداثة ليست إبداعية، من حيث البناء، ولا هي حتى جادة من الناحية الجمالية، ومن أكثر المباني دلالة على هذا الأسلوب الجديد «مركز بومبيدو» في باريس الذي صمم كي يكون متحفاً للفن الحديث، ومكتبة عامة وقاعة للمعارض، ومركزاً للفنون السمعية والبصرية، وكي يصبح مكاناً مبهجاً للتجمعات العامة.

تنافر

هناك تجارب لونية كثيرة في مختلف دول العالم العربي، في السودان والسعودية والمغرب، وغيرها، وتعتبر امتداداً لظاهرة رسومات الحج على جدران البيوت، ففي عام 1996 بدأت مجموعة من الفنانين التشكيليين المصريين، تجربة في حي «كوم غراب» العشوائي، لفرض الجمال بقوة الريشة والألوان، وكان هدفهم من هذه التجربة لفت الأنظار إلى إمكانية تطوير، وتجميل المناطق العشوائية، بأقل التكاليف.

واجهت الفكرة في البداية اعتراضات، واعتبرها البعض نوعاً من تقليد الغرب، هدفه تحقيق أغراض شخصية، إلا أن الفنانين المشاركين في التجربة لم يلتفتوا لذلك، ومع ظهور بدايات العمل على جدران البيوت، بدأ الأهالي يدعمون التجربة، ويشاركون فيها بأيديهم، وكانت المشكلة في العشوائية البصرية، فهناك بيوت مبنية بالحجر، وأخرى بالطوب، ووصل التنوع إلى حد التنافر في البناء.

وينعقد سنوياً في إحدى المحافظات المصرية (كفر الشيخ) ما يسمى «ملتقى البرلس للفنون»، حيث يلتقي فنانون من 18 دولة حول العالم، ليرسموا لوحات فنية تحاكي الطبيعة، وتعبر عن مهنة «الصيد» التي يعمل بها الأهالي، حيث حول الفنانون المنازل إلى لوحات، وحولوا الشوارع وجدران المباني إلى بانوراما فنية، رسموا على المراكب والمنازل والحيطان، حولوا هذا كله إلى «جرافيتي» كبير، وأقاموا ندوات، ونظموا فقرات فنية للأهالي، وشارك عشرات من طلاب كليات التربية النوعية والفنون الجميلة في التجربة، ليتم ترسيخ الفن الجميل في وجدان الأطفال، الذين شاركوا بقوة، تعلموا، رسموا، وشخبطوا، فخرج أجمل ما لديهم.

عناصر لونية

ضمن تجارب فنية عدة تظل تجربة بناء السد العالي، وتكفل وزارة الثقافة المصرية عام 1962 بإرسال الفنانين التشكيليين إلى «النوبة» لتصوير بيوتها قبل أن تغمرها مياه النيل، هي الأهم في هذا الإطار، ومن هؤلاء الفنانة جاذبية سري، وهي إحدى الفنانات اللاتي حملن الراية من جيل الرواد الأوائل، وقد جذبتها الحياة الشعبية، بكل ما تحمله من ثراء تشكيلي، وعناصر لونية، وداعبت فرشاتها مشاهد البيوت الشعبية المتراصة إلى جوار بعضها بعضاً، وكانت عنصراً رئيسياً في أعمالها، ولم تكن البيوت التي رسمتها الفنانة مجرد جدران ومساحات صماء، بل كانت تمثل عالماً ينبض بالحياة والعلاقات الدافئة، بيوت متلاصقة تحددها اللمسات والخطوط المتجاورة والمتداخلة في ليونة وحدة.

وتداخلت الصحراء والبيوت في مرحلة تالية، أكثر نضجاً، نجحت فيها الفنانة جاذبية سري في المزج بين عناصرها المختلفة، داخل اللوحة الواحدة، واتخذت فيها البيوت المرسومة أشكالاً بشرية شاخصة وحزينة، وتراوحت المساحات المترامية، وتقاطعت خطوطها الأفقية مع زحام المدينة، بثرائها الشكلي، وتنوعات ألوانها الزاهية، وتحولت اللوحة إلى حالة من الحركة، واتسعت العيون.

ورسمت الفنانة البيوت والناس في المرة الأولى تأثراً بهزيمة يونيو/ حزيران 1967 وكانت ترسم الوجوه، فتبدو أشبه بالحجارة، أو الكائنات الممسوخة في حكايات ألف ليلة وليلة، وكانت تضفي على البيوت بعض الملامح الإنسانية، وكانت واقعة حينها تحت تأثير صدمة عنيفة، كغيرها ممن عاصروا هزيمة 1967.

وكانت البيوت هذه المرة تختلف عن سابقتها، فقد طغت عليها الملامح الإنسانية وتحولت إلى بشر، وتحول الناس إلى بيوت متراصة إلى جوار بعضها بعضاً، في معالجات فنية تعكس العلاقات الحميمة بين البسطاء في مواجهة المتغيرات التي تحدث حولهم، وما يعتري المجتمع العربي من تحولات ومظاهر، تتمثل في القبح والعشوائية المسيطرة على سلوك الناس.

ولا تزال أعمال جاذبية سري تبدو صامتة وهادئة، كأنها صخور، تتحدث عن مخاوفها، ما يجعلنا نتذكر القصور المهجورة، تقول الفنانة سحر عبد الله: كلما وقفت أمام أعمال جاذبية سري، أفكر في المراحل المتعددة التي مر بها إنتاجها، من الواقعية الزخرفية إلى الواقعية التعبيرية، ثم مرحلة البيوت والصحراء، وأخيراً الجمع بين تجاربها السابقة، وقليلاً ما نجد من الفنانين من يمتلك تلك القدرة على التنوع، والانتقال من مرحلة إلى أخرى، فالألوان مبهجة، والشخوص تتحول إلى بيوت، فالأشخاص هم من يعطون للبيوت دفئاً، فتحياً، وتنصهر في الشكل والمعنى، ليذوب المكان، أو يتحول إلى زمن مستمر، فالشخوص المحدقة بعيونها، نوافذ صامتة حزينة، وأحياناً فرحة صاخبة، فتصنع عالماً تتداخل فيه التفاصيل.

أما الفنانة تحية حليم، فقضت شهراً على مركب في النيل، يتجول بين البيوت النوبية في أوائل الستينات، وترسخت لديها مفاتيح المشهد النوبي، وتقاليد السكان، وملابسهم التقليدية، وركزت على التفاصيل الصغيرة في البيوت، كالنوافذ والأصص الفخارية، والبناء الطيني، إضافة إلى حضور النساء والفتيات في لوحاتها، وتوظيف الزخارف والألوان الترابية، في تتويج لطقوس وتقاليد محلية كالزفاف، والولادة، والترويح عن النفس بالموسيقى وغيرها.

مخزون قديم

كان متاحاً للفنان أن يخرج من المساحات الضيقة لمرسمه، أو قاعات العرض إلى آفاق أكثر رحابة، فالفنان الراحل جميل شفيق من خلال عمله في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم من 1979 إلى 1985 رسم ملامح العمارة الشعبية المتميزة في بعض الدول، مثل اليمن والصومال وتونس والمغرب، ووجد في العمارة بهذه البلاد، مادة أكثر إثارة له، وأسرع تواصلاً معها من البشر، فقد كان يفضل أن يرسم الناس الذين عرفهم وعايشهم، وفي أعماقه مخزون قديم من ملامحهم، بما يجعل إحساسه سابقاً لقلمه وخطوطه، وربما يبرر هذا إقباله على رسم البيوت الشعبية في الأقطار العربية، لأنها تذكره في كثير منها ببيوت النوبة والواحات.

وفي أعقاب ثورة يوليو 1952 كان موضوع فلسطين يشكل ملمحاً أساسياً في أعمال الفنانين المصريين، إذ أصبح لا يخلو معرض من الأعمال التي تتحدث عن هذه القضية، وفي عام ١٩٦٦ أقام الفنان مصطفى الرزاز معرضاً بعنوان «الناس والجدران» ضم مجموعة من الأعمال التي دارت حول تصوير جدران، تتخللها فتحات صغيرة، تظهر من خلالها عيون لأطفال، وعجائز، ويرمز ذلك إلى أن الفلسطينيين أصبحوا ينظرون إلى بلادهم، من وراء جدران، تلاه معرض بعنوان «الناس والديار» صمم فيه الفنان بيوتاً كرتونية، من حولها مجموعة من الناس يركضون في اتجاه متباعد عنها، وقصد من ذلك طرد الفلسطينيين من بيوتهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"