الصحفي «الروبوت» يبدأ العمل!

03:48 صباحا
قراءة 4 دقائق
نصر الدين لعياضي*

يتردّد على ألسنة الكثيرين ممن شاهدوا المذيعة الآلية (الروبوت) وهي تقدم الأخبار التلفزيونية باللغة الروسيّة، في سانت بطرسبرغ يوم الجمعة ال 7 من يونيو / حزيران 2019، السؤال التالي: هل سيدفع الذكاء الاصطناعي إلى الاستغناء عن البشر في تقديم نشرات الأخبار التلفزيونيّة؟ سؤال يبرّره اقتدار المذيعة المذكورة على محاكاة إحدى صحفيات وكالة تاس الروسيّة. لقد قلّدت صوتها، وحركة شفتيها وهي تتلفظ مخارج الحروف، وتعابير وجهها وهي تحاول التفاعل مع طبيعة الأخبار!
تعدّ هذه المذيعة الآلية ثمرة تعاون بين وكالتي الأنباء: تاس الروسيّة، و«شينخوا» الصينيّة اللتين احتفلتا بطريقتهما الخاصة بمرور 70 عاماً من العلاقات الدبلوماسية بين الصين وروسيا.
لا تعدّ هذه المذيعة الآلية أول «روبوت» يقدم الأخبار التلفزيونية في العالم. فقد سبقتها «شين كسيومنغ» في وكالة «شينخوا» الصينيّة التي عرّفت بنفسها للجمهور الصيني، في شهر مارس / آذار الماضي عبر شريط فيديو، قائلة: سأبدأ مشواري المهني معكم مذيعة أخبار متلفزة.
لقد أدهش حضورها في الشاشة المشاهدين لكونها تشبه مذيعة صينية حقيقية، من لحم ودم، تسمى «كيو منغ» إلى حد كبير: ملامح الوجه وقَسِماته ذاتها، وتسريحة الشعر عينها، غير أنها لا توحي بإمكانية التحدث بلغة غير اللغة الصينيّة.
لقد شرعت الصين في الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في قراءة نشرة الأخبار التلفزيونية في نوفمبر / تشرين الثاني من السنة الماضيّة، حيث كان يتناوب عليها رجلان آليان قدما نحو 3500 خبراً تلفزيونياً! لقد كانت تجربة الرجلين الآليين واعدة، لكنها محدودة، لأنهما قدما الأخبار واقفين، ويقومان بحركات نمطية مكرّرة. ومنذ ذاك الشهر تطورت صناعة القراء الآليين لنشرة الأخبار التلفزيونيّة لتشبه المذيعين الآدميين.
لم ينتظر الكثير من الصحفيين الأجانب ظهور المذيعة الآلية وهي تقرأ نشرة الأخبار التلفزيونية باللغة الروسيّة، ليطرحوا السؤال المذكور أعلاه، لأنّهم عاشروا الرجل الآلي في قاعات التحرير. واقتنعوا بأنه سيأتي اليوم الذي سيغادر «العمل في الخفاء»، ليتصدر الواجهة، ويقدم الأخبار التلفزيونيّة.
بصرف النظر عن شكلها المجسم، فإنّ مذيعة الأخبار الآليّة باللغة الفرنسيّة هي نتاج الذكاء الاصطناعي الذي عرّفه العالم الأمريكي مارفن لي مينيسكي في 1950 بالقول: إنّه بناء من برامج المعلوماتيّة يؤدي المهام التي كانت حكراً على الإنسان، والتي تتطلب مساراً ذهنياً معقداً بدءاً بالتدرب على الإدراك، وتنظيم الذاكرة، والربط بين المعطيات. وينفذها على أكمل وجه.
تزايد استخدام الذكاء الاصطناعيّ في إنتاج المعلومات والأخبار، بدءاً بإنشاء قاعدة البيانات والبحث الآلي في محتوياتها، مروراً بالبحث عن مصادر الأخبار، ووصولاً إلى تحرير المقالات الصحفيّة، وتوزيع الأخبار والمواد الصحفية بطريقة مشخصة: أي إرسال نوع معين من الأخبار وفق طلبات كل زبون وميوله.
كانت الصحف الأمريكية سبّاقة إلى إدخال الرجل الآلي إلى قاعة تحريرها. فصحيفة «الواشنطن بوست» الأمريكية، على سبيل المثال، داومت على استخدام الرجل الآلي في تحرير أخبارها، إذ يذكر أنها استعانت بخدمات الروبوت «هيليوغراف» لتغطيّة الألعاب الأولمبيّة التي جرت في ريو دي جانيرو في 2016.
واقترحت المجلة الاقتصاديّة المشهورة «فوربس» على قرائها توقعاتها للأسهم في البورصة ونتائج الشركات الاقتصادية بالاعتماد على برنامج «نراتيف سينس» الذي اخترعته شركة أمريكية صغرى في شمال مدينة شيكاغو. لقد اهتمت هذه الشركة بالبيانات والأخبار المتعلقة بالمال والعقارات والرياضة، معتمدة في ذلك على ما تجمعه من إحصاءات وتحاليل من مصادر مختلفة.
واستعانت القناة التلفزيونيّة الأمريكيّة المختصة في الرياضة «ذا بيغ تن نتورك» بالبرنامج المذكور لتغطية المنافسات الرياضيّة المحليّة. إنها ليست القناة التلفزيونيّة الوحيدة التي فعلت ذلك، فالعديد من المؤسسات الإعلامية تستخدم البرنامج ذاته في كتابة الأخبار، لكنها لا تعلن عن ذلك، حسب مسؤول الشركة المذكورة.
تزايد اعتماد قاعات تحرير على الروبوتات في تحرير الأخبار في العديد من الصحف، إلى درجة أنّ صحفياً في جريدة «لوموند» الفرنسيّة نشر مقالاً عن هذه الظاهرة، ووقعه باسمه الكامل، مؤكداً أنه ليس رجلاً آلياً!
ويتوقع كريستيان هاسوند، مدير التكنولوجيا بالشركة ذاتها، أن ترتفع نسبة الأخبار التي تنشرها وسائل الإعلام على يد «الروبوتات» لتبلغ 90% في السنوات العشر القادمة. وهذه النسبة تثير مخاوف الصحفيين وحتّى غضبهم. لقد رأوا في هذا المخلوق الآلي منافساً خطراً لهم في قوتهم. وذلك لأنه يتكيّف مع أوضاع الصحف المعاصرة والسياق الراهن الذي تتطور فيه وسائل الإعلام. ف «الروبوت» ينتج عددا أكبر من الأخبار يفوق طاقة أمهر الصحفيين على إنتاجه. فوكالة أسوشييتد بريس التي تستخدم برنامج «أوتماتد أنسايتس» في تحرير التقارير عن المؤسسات الاقتصادية «منذ 21 يونيو 2014 ضاعفت عدد أخبارها بعشر مرات في الشهر!
وكتابة الروبوت لا تختلف كثيراً في صياغتها عن أي برقية من برقيات أكبر وكالة أنباء عالمية. وكلفة الخبر الذي يكتبه في حدود 500 كلمة لا تتعدى سعر «سندويتش». شطيرة «شاورما»! وهذا عامل أساسي يغري وسائل الإعلام بالاستعانة بخدمات الروبوت إن استفحلت أزمتها الاقتصادية.
ويعمل الروبوت على تنفيذ الأوامر بسرعة فائقة، إذ بإمكانه كتابة قصة إخبارية في دقيقتين على أقصى تقدير. وهذا عامل أساسي يؤهل الصحف لخوض غمار المنافسة في ظل سرعة بثّ الأخبار.
وتجلت فاعلية الروبوت أكثر في قدرته على محاربة الأخبار المزيفة التي غدت بمنزلة مرض السرطان الذي يهدد المؤسسات الإعلاميّة.
ما يخفف من مخاوف الصحفيين أن ذكاء «الروبوت» وسرعة عمله لا يؤهلانه لكتابة الأنواع الصحفية الفكرية التي تتطلب قدراً كبيراً من التحليل والتفكير والاستنتاج، مثل التحاليل الإخبارية، والافتتاحيات والمقالات والأعمدة الصحفيّة التي تتسم بذاتية الأسلوب.
ففي منافع الذكاء الاصطناعي في البيئة الإعلاميّة تكمن حدوده وحتى أضراره.
فبإضافة إلى مساهمته في إفقار الأخبار نتيجة تنميطها، فإنه غير معصوم من الأخطاء. ولعل القليل من القراء من يتذكر الذعر الذي أصاب الأمريكيين جراء قراءة الخبر الذي نشرته صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» في ال 27 من يونيو / حزيران 2017، وحرّره الصحفي الآلي المسمى «كويكبوت»، والذي أشار فيه إلى وقوع زلزال عنيف بقوة 6.8 على سلم ريختر في مدينة لوس أنجلوس. واتضح بعد نشره أن الزلزال المذكور وقع قبل 92 سنة! لقد اعتمد هذا الروبوت في كتابة الخبر على مركز الدراسات الجيولوجية في الولايات المتحدة الذي كان يعيد تنظيم أرشيفه القديم، فتعامل معه على أساس أنه خبر طازج!

*جامعة الجزائر

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"