العبقرية العسكرية في غزوات الرسول

من المكتبة
03:31 صباحا
قراءة 5 دقائق

الحرب حقيقة واقعة في هذا الوجود، فالعداوة مستحكمة بين قوى الشر وقوى الخير، ومنذ قتل قابيل أخاه هابيل . والدماء بين بني آدم لا تجف، ومن أجل ذلك كان القصاص لمنع الشر في الأمة، كما قال تعالى: ولكم في القصاص حياة . وكان القتال لدفع الشر ومنعه من أن يستشري ويسود العالم . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض .

وإذا كانت الأديان السماوية تدعو إلى الخير، وينشره الرسل في هذا الوجود ويقاومون به الشر، فإنه لابد من أن تُشرع الحرب في الشرائع السماوية، وإلا كان الغلب للأشرار، وتهدمت بيوت العبادة، واستحكم الفساد . ومن هنا كان لا بد للرسول صلى الله عليه وسلم من أن يقاتل أعداء الحق وأعداء الله، ليحق الله الحق بكلماته ويقطع دابر المجرمين . فقاد الجيوش، وقاتل المشركين . وتمثلت في قتاله تلك الحقيقة الخالدة التي قررها عليه السلام إذ يقول أنا نبي المرحمة، وأنا نبي الملحمة .

بهذه الروح القوية كانت الرسالة المحمدية، وبالروح السمحة الرقيقة كانت المعاملة في القتال وبعد القتال . ورحمة الإسلام هي الرحمة التي تعم ولا تخص، ومن الرحمة بالمجموع الأخذ على يد الظالم، و من الرحمة بالعالمين دفع شر المعتدين، فكان الدافع إلى القتال هو الرحمة، وكان القتل في أضيق صورة .

ولقد قاتل النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل معه صحابته والمؤمنون برسالته، واتجهوا إلى فنون القتال مع ضروب الشجاعة التي اختصوا بها . وقد استفاضت كتب السيرة العطرة بأخبار هذا الموضوع .

الخبير العسكري محمد فرج تتبع حروب النبي صلى الله عليه وسلم من الناحية العسكرية الفنية، في كتابه الفريد العبقرية العسكرية في غزوات الرسول (306 صفحات)، موزعاً على أربعة أبواب هي دراسة تمهيدية للحرب، غزوات الرسول، مبادئ الحرب، والرسول القائد .

قريش الظالمة

في بابه الأول يتحدث عن الحرب من وجهة نظر قريش التي اشتدت في تعذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه من المسلمين كي يتركوا رسالة محمد ويعودوا إلى ديانتهم الأولى . ثلاث عشرة سنة حاربت فيها قريش محمداً حرباً لا هوادة فيها للقضاء على الدعوة الجديدة . ووجد الرسول نفسه أمام أعدائه وجهاً لوجه، ولم يجد مفراً من أن يسير في الطريق الذي دفعه أعداؤه إليه، فكانت حروب النبي صلى الله عليه وسلم حروب دفاع ولم تكن منها حروب هجوم إلا على سبيل المبادرة بالدفاع بعد التيقن من نكث العهد والإصرار على القتال، وتستوي حروب الرسول صلى الله عليه وسلم مع قريش وحروبه مع اليهود أو مع الروم . وكان صلى الله عليه وسلم يجتنب العدوان ويحسن من فنون الحرب ما لم يكن يحسنه المعتدون عليه . وفرضت الحرب على النبي وهو نافر منها، ولهذا بذل أقصى ما في وسعه من جهد للحد من فظائعها ولحصرها في أضيق نطاق مستطاع، وأُعطيت الأوامر المشددة الصارمة بأنه لا يجوز بأي حال قتل غير المحاربين في الميدان .

ويتطرق المؤلف هنا إلى الحديث عن الحرب في القرآن وفي الأديان الأخرى، وأسلحة و عُدة الحرب عند المسلمين مثل القوس وهي أهم الأسلحة التي حاربت بها قوات المسلمين، والسيف، والرمح، والترس، والدروع، وقد استعان الرسول بسلاحين جديدين لم يكن للعرب علم بهما هما المنجنيق (لرمي الحجارة وهدم القلاع) والدبابات (مبنى من الخشب يدفع به إلى جدران الحصن) لتحطيمها .

دروس بدر

ثم يتناول بالتفصيل غزوات الرسول، بدءاً من غزوة بدر، وغزوة أحد وغزوة الخندق وما بعدها، وغزوة الفتح، وحنين والطائف وتبوك ويبين المؤلف أساليب القتال والاشتباك بين جيوش الرسول وأعدائه . ويتتبع نتائج كل موقعة والدروس المستفادة منها، ليستخلص من غزوة بدر التي يقف فيها الرسول لأول مرة موقف المحارب، هذه الدروس:

1- أهمية القضاء على قوة العدو الاقتصادية، لأن في ذلك القضاء على القوة العسكرية، وكان هدف الرسول القضاء على تجارة وقوافل قريش .

2- الشورى مهمة جداً في الميدان ووقت الحرب، فالقائد الحكيم هو الذي يستشير جنده وخبراءه ليعرف منهم الخطة السليمة الصحيحة التي تؤدي إلى النصر .

3- أهمية القوى المعنوية للمحاربين وهي العامل الأول الذي دفع بالمسلمين إلى النصر برغم قلة عددهم وكثرة عدوهم .

4- الاهتمام بالاكتشاف والاستطلاع .

5- تنظيم أعمال الجواسيس واختيار الصالحين لهذه العملية .

6- السرية التامة في التحركات، وبخاصة خلال العملية .

7- الأساس السليم الذي وضعه الرسول في توزيع الغنيمة .

8- معاملة القتلى من الأعداء، حيث جمع قتلى قريش ودفنهم في القليب، وهذه روح جليلة ومبدأ إنساني كريم .

9- معاملة الأسرى معاملة حسنة، فإن الرسول قبل الفداء، وأطلق سراح الأسير الفقير .

10- الروح السمحة في الحرب .

11- ضرورة تغلغل العقيدة في نفوس المحاربين .

وفي الباب الثالث تتعرف إلى مبادئ الحرب وهى الاستكشاف للحصول على المعلومات التي تفيد القائد أثناء العمليات، والحشد لأكبر عدد من القوات المقاتلة، والمفاجأة، والتعرض، والتطويق والمطاردة .

وفي الباب الرابع يتناول المؤلف الصفات الشخصية للرسول صلى الله عليه وسلم كفرد، ومنها:

المظهر العام، أي هيئة الرسول وملامحه، وقد اجتمعت فيه صفات كانت لها آثار عظيمة في علاقاته بالناس، فهو كان مثالاً نادراً لجمال الرجولة العربية، استوفى شمائل الوسامة والمحبة والمهابة والعطف على الناس، وكان نشيطاً قوياً . وعلى خلق عظيم . . صادقاً، أميناً، متواضعاً، لين الجانب، وهب عقلاً راجحاً وذوقاً رقيقاً، وعمقاً في التأمل .

من ناحية أخرى كان الرسول يكره الثراء، ولم تبد منه في أية فترة من فترات حياته عناية بطلب المال حباً في المال . وتميزت حياته الخاصة بالحنو والعطف على اليتيم والفقير والأرامل والبائس والضعيف والرقيق، ونصرة المظلوم، وساعد ذوي العسرة وأهل الضنك والفاقة، وصفه عمه أبو طالب بأنه حامي اليتامى والأرامل . وكان يصل الرحم ويقري الضيف ويُعين على نوائب الدهر .

تميزت أخلاقه بالبساطة والإخلاص، وكان يصر على أن يعمل كل شيء بيديه، وقد خص الكد والكدح في العمل بالاحترام والتقدير، ولم يترفع عن أي عمل . ولم يكن له مثيل في البر والإحسان . . يذوب رحمة وعطفاً ومودة .

وأما عن صفاته الشخصية كقائد، فكانت تتضح في سعة الاطلاع وقوة الإرادة والشجاعة والمثابرة والاهتمام بالجند ومواجهة الحقائق وعدم التهرب منها، والقدرة البلاغية والحنكة السياسية كوسيلة يضمن بها استقرار حياة دعوته . وقد كانت لهذه الصفات التي امتاز بها الرسول صلى الله عليه وسلم في قيادته، أثرها في تربية أصحابه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ما جعلهم أبطالاً، سجلوا في تاريخ العسكرية مبادئ القيادة السليمة وأصولها الصحيحة، وكانوا جميعاً صورة مصغرة للقائد الأول والمقاتل الأمثل محمد بن عبدالله .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"