العراق.. التغيير أو الانزلاق إلى الهاوية

02:54 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أحمد سيد أحمد *

بعد مرور أكثر من شهرين على اندلاع التظاهرات في العراق، وبعد وقوع أكثر من 400 قتيل وآلاف الجرحى، اضطر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، إلى تقديم استقالته إلى البرلمان وقبلها، في خطوة نحو الاستجابة لمطالب المتظاهرين، لكنها ليست كافية لتهدئة المحتجين ووقف التظاهرات.
هذه الاستقالة ليست كافية لسببين: الأول أن استقالة عبد المهدي جزء من حزمة من المطالب الشاملة التي تحولت من مطالب اقتصادية خاصة بالبطالة وارتفاع الأسعار وانتشار الفساد، إلى مطالب سياسية أبرزها تغيير الطبقة السياسية الحاكمة التي يعتبرها المحتجون المسؤول الأساسي عما وصلت إليه أوضاع البلاد من تدهور اقتصادي واستشراء الفساد، ما جعل العراق ضمن الدول العشر الأكثر فساداً في العالم، على الرغم من ثرواته الطائلة، خاصة من النفط والغاز، وبالتالي فالاحتجاجات والتظاهرات مستمرة وليست فقط من أجل تغيير بعض الأشخاص، وإنما لتغيير النظام السياسي؛ أي تركيبة وبنية النظام الذي ساد منذ عام 2003، وقام بشكل أساسي على المحاصصة الطائفية، وقوانين الانتخابات التي جعلت الأحزاب والكتل السياسية وخاصة الدينية، هي المسيطر الأساسي على المشهد السياسي، وأدى ذلك الوضع لدخول العراق في نفق مظلم.

حركة الشارع أسرع

والسبب الثاني: هو أن نمط التعامل مع التظاهرات من قبل السلطة الحاكمة خلال الأسابيع الأخيرة، اعتمد بشكل أساسي على الحل الأمني لفض التظاهرات، والإفراط في القوة واستخدام الرصاص الحي، والغاز المسيل للدموع، مما أوقع مئات القتلى العراقيين، وهو ما أدى إلى اشتعال جذوة التظاهرات والإصرار على التغيير السياسي الشامل، والمطالبة بمحاسبة ومعاقبة المتورطين في أعمال العنف ضد المتظاهرين.
احتجاجات العراق خلال الشهرين الماضيين، أثبتت أن حركة المتظاهرين في الشارع كانت أسرع من حركة السياسيين، خاصة الكتل السياسية واللاعبين الأساسيين في المعادلة العراقية، والذين راهنوا على أن عامل الوقت سيكون كفيلاً بإنهاء التظاهرات، وضغطوا على رئيس الوزراء لكي لا يستقيل، كما أنهم تجاوبوا شكلياً مع التظاهرات واختزلوها في مجرد إجراء إصلاحات شكلية قدمها رئيس الوزراء من قبل، من خلال مواجهة الفساد وتحسين أحوال الفقراء وغيرها، لكنهم لم يستوعبوا حركة الشارع العراقي الذي اختلفت تظاهراته هذه المرة عن التظاهرات السابقة، حيث تحولت التظاهرات الحالية من مطالب اقتصادية إلى الضغط من أجل تغيير سياسي حقيقي في المعادلة السياسية، ومن ثم رفض المعادلة الحالية التي هيمنت على العراق وارتكزت على المحاصصة، ولذلك فإن استقالة عبد المهدي جاءت في توقيت متأخر، ولم تلب طموحات وآمال المحتجين، مع استمرار التظاهرات في بغداد ومحافظات وسط وجنوبي العراق، واتساع نطاقها، خاصة في محافظات ذي قار، والمثنى، والبصرة، والنجف، التي شهدت أعمال عنف واسعة، من إحراق القنصلية الإيرانية وسقوط العشرات، وهو ما أدى إلى تداعيات كبيرة على الأرض، منها إعلان العشائر في تلك المحافظات الانضمام إلى المحتجين، ما يعني اتساع الفجوة بين المواطنين والمتظاهرين، وبين النخبة السياسية المسيطرة على البلاد.

المرجعية الدينية

تلعب المرجعية الدينية الممثلة في المرجع الأعلى علي السيستاني دوراً مهماً في تحريك وتشكيل الأحداث في العراق، فقد أعلنت دعمها للمحتجين منذ البداية، وحذرت من المندسين في التظاهرات، لكنها لم تبلور موقفاً واضحاً تجاه التغيير وطبيعته وحدوده، لكن بعد أحداث الناصرية الدموية طالب السيستاني في خطبة الجمعة صراحة البرلمان بسحب الثقة من الحكومة، وهو ما دفع عبد المهدي إلى تقديم الاستقالة إلى البرلمان، وهو ما يشير إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه المرجعية الدينية في دعم المتظاهرين، وفي اتجاه الضغط على الطبقة السياسية وعلى السلطة الحاكمة، من أجل التجاوب مع مطالب المحتجين، لكن هذا الدور يظل مرهوناً أيضاً بمدى توافقه مع التغيير الشامل الذي يطالب به المحتجون، وهو أمر يبدو صعباً في المدى القريب، حيث يخشى البعض خاصة المرجعية الدينية من الانزلاق إلى حالة من الفراغ السياسي والفوضى، ولذلك تدعم المرجعية التغيير التدريجي.

خطوة مهمة

وعلى الرغم من أن استقالة رئيس الوزراء عبد المهدي، وتوليّ رئيس الجمهورية برهم صالح سلطة رئيس الوزراء، وفقاً للدستور العراقي لحين اختيار رئيس وزراء جديد، تعد خطوة مهمة للتجاوب مع مطالب المحتجين والخروج من حالة الانسداد السياسي، فإنها غير كافية، خاصة مع حالة التغيير الشامل والجذري الذي يطالب به المحتجون، وأبرزها تغيير قانون الانتخابات الذي يكرس هيمنة الكتل السياسية على حساب المستقلين، وقانون المفوضية العليا للانتخابات، وذلك في اتجاه تغيير النظام الطائفي لكن هذا التغيير الجذري يواجه بتحديات عديدة أبرزها الإجراءات الدستورية والقانونية التي يتطلبها هذا التغيير؛ لأنه يعني تغييراً في بنية العملية السياسية وهو أمر يأخذ بعض الوقت، كذلك فإن الطبقة السياسية الحاكمة تعارض مثل هذا التغيير الجذري؛ لأنه سيؤدي إلى فقدانها المزايا العديدة التي اكتسبتها خلال السنوات الماضية؛ بل إن الكتل السياسية التي دعمت التظاهرات مثل تكتل سائرون الذي يتزعمه مقتدى الصدر على الرغم من تعاطفه مع المحتجين والمطالبة باستقالة الحكومة، ومطالبته بتعيين رئيس وزراء جديد من بين خمسة أشخاص يتم الاختيار من بينهم عبر الاستفتاء العام، فإنه لم يعلن موقفه من التغيير الشامل للمعادلة السياسية، إضافة إلى ذلك يبرز دور العامل الخارجي والقوى الدولية والإقليمية التي لها تأثير في العملية السياسية والتي تعارض أيضاً التغيير الجذري.
ولذلك، فإن استقالة عبد المهدي تتطلب اتخاذ العديد من الخطوات الأخرى المتعلقة بتغيير المعادلة السياسية، وإنهاء احتكار النخبة السياسية الحالية للمشهد السياسي سواء من خلال إصلاح قانون الانتخابات أو تغيير الدستور، وذلك لمنع تفاقم الأوضاع على الأرض بعد أن اتخذت التظاهرات منحى عنيفاً ودموياً، وتصاعد مطالب المحتجين، حيث إن أي تأخير في الاستجابة لتلك المطالب سيزيد التكلفة العالية على العراق سواء بشرياً مع استمرار سقوط القتلى والمصابين، أو مادياً مع إصابة كثير من المدن العراقية بالشلل، مثل العاصمة بغداد، مع إغلاق الطرقات والجسور الرئيسية وتعطل الحركة التجارية والسياحية، وهو ما يفاقم من تدهور الأوضاع الاقتصادية، ويهدد بدخول البلاد إلى نفق مظلم، وكذلك محاسبة ومعاقبة المسؤولين المتورطين في أعمال العنف ضد المحتجين.

خريطة طريق

العراق يحتاج إلى خريطة طريق سياسية شاملة تخرج البلاد من الأزمة التي تواجهها منذ تحدي صعود تنظيم «داعش» الإرهابي عام 2014، ولن تجدي الحلول الجزئية في امتصاص غضب الجماهير، أو وقف الاحتجاجات التي أصبحت الآن تسير بسرعة أكبر من حركة الطبقة السياسية التي ما زالت تناور وتماطل، في محاولة ربما يائسة للتمسك بوضعها في العملية السياسية والحفاظ على المكتسبات التي حققتها، لكنها لم تستوعب الرسالة الحقيقية للمتظاهرين الذين خرجوا هذه المرة للتغيير الشامل، ودفعوا ثمن ذلك من الشهداء والجرحى، ولن يعود العراق إلى ما قبل التظاهرات، وعلى الطبقة السياسية أن تسرع من حركتها وتستوعب رسالة المحتجين قبل أن ينزلق العراق إلى الهاوية.

* خبير العلاقات الدولية في «الأهرام»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"