الفن ضد الوباء

05:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
يفيض فن الرواية في الوطن العربي وفي العالم بشخصيات مريضة مرضاً عضوياً أو مرضاً سيكولوجياً، ويصبح المريض في هذه الحال هو بطل الرواية ومركزها وفلكها العام، أما المرض نفسه، أي مرض بطل الرواية، فهو الآخر يصبح مركزاً خصوصاً إذا كان مرضاً سيكولوجياً.. هكذا بدت شخصيات دوستوفسكي متوترة يحيط بها القلق والصدع واللاطمأنينة النفسية، وبدا مريض بعض روايات عبدالرحمن منيف منهاراً وهو يعاني لحظات مروّعة مرت على حياته الأشجار واغتيال مرزوق مثالاً..، أما مريض الكاتب الألماني أريش ماريا ريمارك في روايته ليلة لشبونة فهو مرض بوليسي، إن جازت العبارة، أي أنه مرض مستجلب من الخارج.. من خارج شخصية البطل نفسه شفارتس.

تتعدد صور المرض في الرواية، فقد يكون الوهم هو المرض. الحب أيضاً في بعض الروايات يتحول الى مرض. الخوف/ الندم/ الوسواس/ كلها وجوه لمرضى روائيين قرأناهم وتعاطفنا مع حالاتهم المتوترة والعصيبة تلك.

في الرواية أيضاً تبدو شخصيات منفصمة ومنفصلة عن الواقع تماماً - إنها في غيبوبة تامة وليس لها أية صلة بالحياة بمعناها الطبيعي، أما الوحدة والاكتئاب فهما من أبرز صور المرض في الرواية الحديثة على وجه التحديد.

لنقرأ هذا المثال على تشخيص الوحدة والاكتئاب للكاتبة الأمريكية اليزابيث جيلبرت في روايتها المدهشة طعام.. صلاة.. حب.

تقدّما نحوي (تقصد الاكتئاب والوحدة والكاتبة هنا تذكّر الاكتئاب وتؤنث الوحدة) بصمت وتهديد، وأحاطا بي، الاكتئاب عن يميني والوحدة عن يساري. لم يكونا في حاجة إلى إبراز شارتيهما، فأنا أعرفهما جيداً. نحن نلعب لعبة القط والفأر منذ سنوات، مع ذلك أقر بأنني فوجئت لرؤيتهما في هذه الحديقة الايطالية الأنيقة عند الغروب، فهما لا ينتميان الى مكان كهذا.

قلت لهما: كيف عثرتما عليّ هنا؟ من أخبركما بمجيئي إلى روما؟.

قال الاكتئاب الأكثر مكراً: ماذا، ألست سعيدة بلقائنا؟ قلت: راحلا عني.

قالت الوحدة، وهي أكثر حساسية: آسفة سيدتي. ولكن كان علي تعقبك طيلة سفرك. إنها مهمتي.

قلت لها: أفضّل حقاً لو أنك لم تفعلي، فهزت كتفيها معتذرة تقريباً، ولكن لتقترب أكثر.. ثم افرغا جيوبي من أي فرح حملته معي إلى هناك، حتى ان الاكتئاب صادر هويتي، ولكنه يفعل ذلك دوماً، ثم بدأت الوحدة تستجوبني وهذا ما يثير رعبي لأنها تستمر لساعات...

هذا المقطع الطويل من رواية اليزابيث جيلبرت يكاد يكون هوية العصر.. عصرنا هذا المدجج بالقلق وغياب تأثير الروح في زمن شاسع في ماديته القاتلة لروح الانسان وحتى جسده.

وإذا أردنا رصد وجوه المرض في الرواية العربية وغير العربية لأمكن إحصاء آلاف النماذج لبشر روائيين يعانون مرارة هذه الوجوه المرضية، وفي حقيقة الأمر هم ليسوا أبطالاً روائيين وحسب، بل خارج الرواية وفي الحياة العادية هم أشخاص واقعيون، وهم ضحايا أمراض هذا العصر.

ولكن ماذا عن الأوبئة.. ماذا عن الأوبئة في الرواية؟ أو ماذا عن رواية الوباء؟

بين المرض والوباء ثمة مسافة تبدو واسعة، ولكن ما من مرض اذا تفاقم وعم العالم وكثرت ضحاياه إلا واتخذ اسماً مريعاً: الوباء.

والأوبئة في التاريخ معروفة.. الجذام، الكوليرا، الجدري، الطاعون.. الخ، ولأنها تفتك بالبشرية شأنها شأن الحروب والمجاعات وكوارث الطبيعة، فهي بيئة ملائمة للروائي الذي يكون في العادة في قلب هذه الأوبئة، وكأنه هنا يحاول ان ينجو من شمولية الوباء بالذهاب الى الكتابة، فالرواية تصبح هنا تاريخاً ووثيقة مدونة لكارثية الوباء.

كتب البير كامو الطاعون وكتب ماركيز الحب في زمن الكوليرا وتناولت السينما حالات وبائية مرعبة في افلام تخللتها مشاهد وثائقية من الحياة مباشرة، والفنون التشكيلية جسّدت أوبئة مرعبة مرت على البشرية.. المسرح أيضاً لم يهمل أثر الأوبئة في الروح البشرية والشعر أيضاً، وفي نصوص محدودة كان يدوّن عذابات الانسان الذي إن نجا من الحروب وشرورها وآفاتها فإنه لا ينجو من وباء يدهم العالم ويحوّله الى جنازة هائلة.

ماذا يفعل الفن.. ماذا يفعل الروائيون والشعراء والموسيقيون والرسامون أمام ارتجاف الحياة من قرون المرض والأوبئة؟.. أظن انهم لن يفعلوا شيئاً أكثر عبقرية من عقاقير الأطباء والعلماء الذين ربوا الأمراض ايضاً في مختبراتهم المعقمة كما يربي رجل نمراً صغيراً ويعطيه اسماً رومانسياً.. وعندما يكبر هذا النمر الصغير ينقض على صاحبه وقد ضرّجه بالدم.

وكما ينتج العلم دواء شافياً للداء، انتج العلم أيضاً فصيلاً أو جيلاً من الأمراض بالتعاون مع مؤسسة السياسة السوداء.. لكن في مقابل ذلك لا يفقد الفن أي أمل، ويظل يحارب الى ان ينتصر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"