النقش على جدار الزمن

04:26 صباحا
قراءة 5 دقائق


** الشارقة: محمود لحبيب


في معظم أفلام الخيال العلمي التي تتحدث عن مخلوقات قادمة من كواكب أخرى لاحتلال الأرض، أو عن كارثة بيئية نووية تدمرها، يكون هناك حل ما، يتمثل في كومبيوتر عملاق يخزن كل علوم وآداب وثقافات الأرض في جوفه، أو مستودع ما، يفعل ذلك ومخبئ بعناية عن أعين الغزاة، أو نواتج التدمير، حتى إذا دارات الأرض دورتها، وانتهى الحدث البشع بعد سنوات أو بعد قرون، جاء من يفتح السر المغلق، وينشط الذاكرة الإنسانية، ويرسم من جديد لوحة الحياة والتطور اعتماداً على كل ما خُزن من الحضارة السابقة للبشر.
هذا المشهد برمزيته الدرامية يكشف إلى أي مدى يخشى الإنسان الاندثار، وإلى أي حد يرى أن المحافظة على ذاكرته هي الضمان الأساسي للبقاء ومقاومة الفناء.
كانت الحضارات القديمة تخلد أعمالها عبر الرسومات والنقوش، هنا كان الفن التشكيلي حاضراً ليسجل بدقة معالم تلك الحضارة، ويضعها بكل أمانة بين أيدي بشر سيأتون بعد قرون لينظروا إليها، وأعينهم تصطحب الدهشة والانبهار.
في الواقع ليس الفن التشكيلي هو من يحفظ وحده ذاكرة البشر، وما تخزنه من حضارة وثقافة؛ بل إن كل الفنون والآداب الإنسانية تفعل ذلك وإن بدرجات متفاوتة، لكن ما يهمنا الآن هو أن نسأل: كيف يحفظ التشكيلي تلك الذاكرة؟، هل يفعل ذلك حين يظهر فقط - عبر الرسم أو النحت، أو الخزف، أو الخط أو غير ذلك من تصنيفاته وفروعه -، تطور الممالك، والدول، وتاريخ الشخصيات العظيمة، دون أن يتعرض لحياة الإنسان وحركته داخل الزمان والمكان؟، أم أن ثمة من التشكيليين من تجاوز ذلك المفهوم الضيق لتسجيل الذاكرة، واعتبر أن تسجيل المشاعر والانطباعات والمواقف النضالية، وتطورات الفكر هي أيضاً جزء أصيل ومؤسسي من حفظ ذاكرة الإنسان؟.
نحن أمام نمطين تشكيليين حفظا الذاكرة الإنسانية بكل معانيها الآنفة الذكر، فقدما تاريخ النخبة تماماً كما قدما تاريخ وحاضر مواقف الناس، وآراءهم، ومشاعرهم من البكاء إلى الفرح إلى الخوف إلى الأمل، وقد تطور كل منهما تبعاً لتطور الفن التشكيلي نفسه.
الفسيفساء والزجاج الملون والنقش على جدران المعابد والأماكن الرمزية الخاصة، والأشغال المعدنية، الفن القوطي، المسيحي، الإسلامي، كل تلك عناوين رافقت -في تصنيف الباحثين- مرحلة ما يعرف بفن القرون الوسطى؛ لكنهم - أي الباحثين- يرون أن ذلك الفن كان بطريقة ما تسجيلاً لذاكرة متحكمة تمثلت تارة في سلطة الكنسية في أوروبا مثلاً، أو بعض النخب العلمانية التي جاءت بعدها، ولم تتعد ذلك في معظم الأعمال الفنية المعروفة عن تلك الفترة في عصرنا الحالي؛ لذلك تمكن قراءة الذاكرة الإنسانية من خلال الفن التشكيلي في القرون الوسطى، بأنها كانت ذاكرة تسجيلية تجزيئية، لم تقدم لنا الكثير من الأعمال التي يمكن من خلالها التعرف مثلاً إلى أنماط العيش والتفكير في تلك الفترة الغابرة، وربما كان ذلك هو أقصى ما يمكن للفنانين في تلك الفترة بلوغه؛ بسبب النمطية الفكرية السائدة، أو بسبب كلفة إنجاز الأعمال بذلك الشكل.
غير أن ظهور المدارس الفنية كالتعبيرية والانطباعية وصولاً إلى ما بعد الانطباعية، والفن الحديث، وغيرها، منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، قدم لنا نموذجاً مختلفاً ومتطوراً باستمرار في تعامل التشكيليين مع الذاكرة الإنسانية، وفي تحديدهم أصلاً لما تعنيه تلك الذاكرة، ولما ينبغي أن تحتويه.
وفي كلمات معبرة جداً يشرح لنا الرسام النرويجي إدفارت مونك صاحب اللوحة الأشهر «الصرخة» منهجه التعبيري حين يقول: «لا رسم بعد اليوم لنساءٍ جالسات يَحِكن، ورجال منهمكين في القراءة، أريد أن أعرض أناساً يتنفَّسون ويحسُّون ويحبُّون ويتألمون».
الذاكرة الإنسانية هنا تتخذ مفهوماً شاملاً، واسعاً، في سعة الحياة نفسها، في تفاصيلها البشرية التي ينبغي أن تظل حية؛ لكي يتساءل من سيأتي في قرننا الواحد والعشرين بمجرد أن ينظر إلى لوحة «الصرخة» مثلاً: لماذا صرخ ذلك الرجل فيها، وكيف تجلت ملامح الرعب في وجهه بهذه الدقة؟، ولم تبدو وكأنها تسجيل آني لأية صرخة يمكن أن تحدث لأي إنسان هنا؟.
هذا النهج في تسجيل المشاعر تطور كثيراً مع أساطين الفن الحديث، ليتحول إلى تسجيل للمواقف والأفكار، وتمثيل للنضالات من أجل التحرر من الاستعمار، ومن أجل التحرر من سطوة وتأثيرات التكنولوجيا، ومن أجل إعادة الاعتبار للطبيعة والتراث المواجهين بعولمة ثقافية، توشك أن تحدد الجميع في خانة ضيقة عمادها هي، وهي فقط.
ثمة أمثلة كثيرة على التشكيليين الذين حفظوا الذاكرة البشرية بفعلها المقاوم ذاك للهيمنة الثقافية وكل أشكالها المتجددة، لكن المقام قد لا يتسع هنا إلا لاستعراض بعضهم وخصوصاً في منطقتنا العربية، ممن سجلوا وما زالوا رغم رحيل بعضهم، تفاصيل لا تندثر ولا تمحى للذاكرة الجمعية العربية.
وإذا كان الفن التشكيلي الحديث قد تطور كثيراً من حيث ارتباطه بالذات، وبالتجربة الشخصية لمبدعه، وغدا تعبيراً عن ملامح تلك التجربة بطريقة تظهرها وكأنها تعبير كذلك عن ملايين البشر، فإن المرور على تجربة الفلسطينية البريطانية المعاصرة منى حاطوم، يظهر كذلك كيف تطور مفهوم حفظ الذاكرة البشرية من خلال التشكيل وأنواعه، وكيف يغدو شيئاً فشيئاً تسجيلاً دقيقاً سيكرر دورة حفظ المعرفة للأجيال القادمة، وسيريها ما هي أهم هواجس إنساننا الحالي، وما هي أكبر معاركه المرتبطة بهويته؟.
فوزها بجائزة ترنر والتي هي أرفع جائزة بريطانية في الفنون المعاصرة، جعل منها فنانة مشهورة في أوروبا وأمريكا وكثير من دول العالم، ومع ذلك هي تحمل هويتها الفلسطينية، وتعبر عنها من خلال ذاكرة مزدحمة بالأسلاك الشائكة والأجواء المشحونة بنمط السجن والتقييد والحصار، والتي تظهر كثيراً في أعمالها.
لم تتوقف حاطوم عند مفهوم الهوية الضيق؛ بل وسعتها من خلال نمط عملها الفني الذي تنقلت فيه ما بين الفن الاستعراضي، والرسم واستخدام الفيديو والنحت وغير ذلك، وحاولت تقديم أزمات البشر الحالية والمستقبلية المتوقعة من خلال عدة أعمال، ضمت رؤى فكرية فلسفية.
من بين أعمالها التي جسدت رؤيتها تلك عمل بعنوان: «جسد غريب»؛ حيث تطرح من خلاله إشكالية عدم تعرفنا كبشر إلى أجسادنا إلا من خلال الكاميرا، وهي بذلك تطرح كذلك أسئلة عن الكاميرا نفسها، ورقابتها على عالمنا، وكيف تغدو الحرية الشخصية مهددة بطريقة ما وفي ظروف خاصة، إنها باختصار تطرح معظم الإشكاليات التي نواجهها الآن كبشر من جرّاء استعمالنا للتكنولوجيا، وتذهب أعمق فأعمق في تسجيل الموقف الرافض لهيمنتها على حياتنا وتحولنا لكائنات أسيرة لها.
الفن التشكيلي لا يزال مخلصاً أميناً على تسجيله لمختلف تطورات مفهوم الذاكرة الإنسانية، إنه هو الصديق الآمن والأمين على المستقبل، وربما لن يقلق الأبناء والأحفاد القادمون من الآتي، حين يحاولون فتح صندوق التاريخ للتعرف إلينا، فمن خلال لوحة أو تمثال أو عمل استعراضي، أو قطعة خزف، أوعمل تركيبي أو حروف مرصوصة على شكل خطوط، أوغير ذلك من تجليات الفنون التشكيلية المعاصرة، يمكنهم أن يعرفوا كيف كنا، وكيف تطورنا، وكيف تألمنا، وحلمنا، وآمنا بفرصتنا في أن نصوغ الحياة بشكل أفضل مما نحن فيه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"