جهود حُماة السُنة.. دفاع عن أقوال الرسول

السند للحديث كالنسب للمرء
01:15 صباحا
قراءة 4 دقائق

كان الوضاعون‮ ‬يسيئون إلى الدين إساءة خطرة، ‮ ‬ويشوهون بكذبهم وجه الإسلام، ‮ ‬ويدخلون في‮ ‬تعاليمه ما ليس منه، ‮ ‬لولا عناية الله، عز وجل، الذي‮ ‬حفظ الإسلام من التحريف والتبديل، ‮ ‬وصان كلام نبيه، صلى الله عليه وسلم، عن أن‮ ‬يكون مطية لأهل الأهواء، ‮ ‬فقيّد للأمة رجالاً أمناء مخلصين، ‮ ‬قاوموا الوضاعين وتتبعوهم، ‮ ‬ومازوا الباطل من الصحيح. ‮ ‬ولولا الجهود التي‮ ‬بذلها الصحابة والتابعون وعلماء الأمة من بعدهم لاشتبه على كثير من الناس بعض أمور دينهم، ‮ ‬لكثرة ما اختلقه الكذبة الوضاعون، ‮ ‬ونسبوه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زوراً‮ ‬وبهتاناً.
‮ويقول د. محمد عجاج الخطيب في‮ ‬كتابه‮ «‬السنة قبل التدوين‮» ‬إن المنصف لا‮ ‬يسعه إلا أن‮ ‬يقف إجلالاً وإكباراً‮ ‬لجهود علماء الأمة التي‮ ‬بذلوها‮، منذ عصر الصحابة إلى أن تم تدوين السنة‮‬، في‮ ‬تنقيحها وتطهيرها مما أدخلته فيها‮ ‬يد الوضع، ‮ ‬وإن المرء ليزداد إعجاباً لتلك القواعد العلمية الدقيقة التي‮ ‬طبقها العلماء، ‮ ‬وبذلك المنهج الخاص الذي‮ ‬اتبعوه في‮ ‬سبيل الحفاظ على حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ‮ ‬ولندرك قيمة بحثهم ودراستهم وصبرهم وتتبعهم إزاء تلك الكثرة من الأحاديث الموضوعة، ‮ ‬التي‮ ‬يصعب استقصاؤها وحصرها- ‬يكفينا لهذا أن نعلم أنه قد وضع أعداء الإسلام بشهادة حماد بن زيد، أربعة عشر ألف حديث، ‮ ‬وأن عبد الكريم بن أبي‮ ‬العوجاء اعترف بوضع أربعة آلاف حديث، ‮ ‬وأقر محرز أبو رجاء القدري‮ ‬التائب بأنهم وضعوا أحاديث في‮ ‬القدر أدخلت أربعة آلاف‮.‬
‮ ‬ولقد وقف الصحابة والتابعون من هذه الظاهرة وقفة قوية للحفاظ على الحديث الشريف، ‮ ‬وأصبحوا‮ ‬يشددون في‮ ‬طلب الإسناد من الرواة، ‮‬والتزموه في‮ ‬الحديث، ‮ ‬لأن السند للخبر كالنسب للمرء، ‮‬ويخبرنا الإمام محمد بن سيرين عن ذلك فيقول‮: «لم‮ ‬يكونوا‮ ‬يسألون عن الإسناد، ‮ ‬فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، ‮ ‬فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ‮ ‬وينظر إلى أهل البدع فلا‮ ‬يؤخذ حديثهم».‬
‮ ‬ومن نعم الله عز وجل على المسلمين أن انبث الصحابة في‮ ‬الأمصار والبلدان وكتب لبعضهم طول العمر ليسهموا في‮ ‬حفظ السنة المحمدية إثر الفتنة، ‮وبعد ظهور الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ‮‬فكان طلاب العلم‮ ‬يسمعون من الصحابة، ‮وإذا ما سمعوا من‮ ‬غيرهم أسرعوا إلى من عندهم من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليتأكدوا مما سمعوا، ‮‬فكانوا‮ ‬يبينون لهم الغث من السمين، ‮من هذا ما فعل ابن عباس مع ابن أبي‮ ‬مليكة، ‮قال ابن أبي‮ ‬مليكة‮: «‬كتبت إلى ابن عباس أسأله أن‮ ‬يكتب لي‮ ‬كتاباً‮ ‬ويخفي‮ ‬عني، ‬فقال‮: ‬ولد ناصح أنا أختار له الأمور اختياراً‮ ‬وأخفي‮ ‬عنه‮. ‬قال‮: ‬فدعا بقضاء فيه فجعل‮ ‬يكتب منه أشياء ويمر به الشيء فيقول والله ما قضى بهذا عليّ‮ ‬إلا أن‮ ‬يكون ضل‮».‬

استعداء السلاطين

يشير أبي‮ ‬عمر‮ ‬يوسف بن عبد البر في‮ ‬كتاب‮ «‬جامع بيان العلم وفضله‮» ‬إلى جانب احتياط العلماء وتثبتهم في‮ ‬قبول الأخبار وكان بعضهم‮ ‬يحاربون الكذابين علانية ويمنعونهم من التحديث، ‮ويستعدون عليهم السلطان‮. وكان عامر الشعبي‮ «يمر بأبي‮ ‬صالح صاحب التفسير، ‮فيأخذه بإذنه ويقول‮: ‬ويحك‮! ‬كيف تفسر القرآن وأنت لا تحسن أن تقرأ‮». ‬وقال الشافعي‮: «‬لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق، ‮كان‮ ‬يجيء إلى الرجل فيقول‮: ‬لا تحدث وإلا استعديت عليك السلطان‮».
وكان شعبة شديداً‮ ‬على الكذابين، ‮‬قال عبد الملك بن إبراهيم الجدي‮ ‬الثقة المأمون‮: (‬رأيت شعبة مغضباً‮ ‬مبادراً‮ ‬فقلت‮: (‬ما بك ‬يا أبا بسطام، ‮ ‬فأراني‮ ‬طينة في‮ ‬يده وقال‮: ‬ على هذا‮، يعني‮ ‬جعفر بن الزبير، ‮وضع على رسول الله، صلى الله عليه وسلم أربعمائة حديث كذب‮).‬
‮ ‬وكان لابد للصحابة والتابعين ومن تبعهم من معرفة رواة الحديث، ‮‬معرفة تمكنهم من الحكم بصدقهم أو كذبهم، ‮حتى‮ ‬يتمكنوا من تمييز الحديث الصحيح من المكذوب، ‮‬لذلك درسوا حياة الرواة وتاريخهم، ‮وتتبعوهم في‮ ‬مختلف حياتهم، ‮ ‬وعرفوا جميع أحوالهم، ‮‬كما بحثوا أشد البحث‮ «حتى عرفوا الأحفظ فالأحفظ، ‮ ‬والأضبط فالأضبط، ‮ ‬والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة‮». ‬وقد قال سفيان الثوري‮: «لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ‮».‬
‮ وكما وضع العلماء قواعد دقيقة لمعرفة الصحيح والحسن والضعيف من الحديث، ‮ ‬وضعوا قواعد لمعرفة الموضوع منه، ‮ ‬وذكروا ما‮ ‬يدل على الوضع في‮ ‬سند الحديث، ‮وما‮ ‬يدل عليه في‮ ‬متنه‮.‬
‮ وإلى جانب هذه القواعد، ‮تكونت عند أكثر العلماء ملكة خاصة، ‮ ‬نتيجة لدراستهم حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ‮ ‬وحفظه ومقارنة طرقه، ‮‬فأصبحوا‮ ‬يعرفون، لكثرة ممارستهم هذا‮، ما هو من كلام الصادق المصدوق وما ليس من كلامه، ‮وفي‮ ‬هذا‮ ‬يقول ابن الجوزي‮: «الحديث المنكر‮ ‬يقشعر له جلد الطالب للعلم، ‮وينفر منه قلبه في‮ ‬الغالب‮» ‬ويقول الربيع بن خثيم التابعي‮ ‬الجليل‮‬، أحد أصحاب ابن مسعود‮: (إن من الحديث حديثاً‮ ‬له ضوء كضوء النهار نعرفه به، ‮ ‬وإن من الحديث حديثاً‮ ‬له ظلمة كظلمة الليل نعرفه بها‮).‬
‮ ‬هذه أهم القواعد التي‮ ‬وضعها جهابذة علم الحديث لتمييز الموضوع من الصحيح، ‮ ‬كما أنهم بحثوا بدقة تامة عن الأحاديث الموضوعة، ‮‬وصنفوها حتى تعرف لأهل العلم ولا تشتبه عليهم، ‮ونلاحظ أن هذه القواعد تناولت الحديث سنداً‮ ‬ومتناً، ‮فلم تقتصر جهود العلماء على نقد سند الحديث فقط دون متنه، ‮كما ادعى بعض المستشرقين وأيدهم في‮ ‬ذلك بعض الكاتبين المسلمين‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"