جيش الـ «شينجين»

02:41 صباحا
قراءة 5 دقائق
شادي المصري

هل بات جيش «الشينجين» حقيقة واقعة، وعلى العم سام بنوع خاص القبول بها، وفي مواجهة أوروبا متمردة على التبعية للولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة في ظل رئيس أقرب ما يكون إلى النزعة القومية الإمبريالية بمعالمها وملامحها الاستعلائية؟
المؤكد أننا لسنا في مواجهة فكرة جديدة، فقد راودت أذهان الفرنسيين والألمان قبل عقود؛ لكن سياقات الحرب الباردة، والحاجة إلى العلاقة الوثيقة واللصيقة مع «الناتو» بجناحه الأقوى المتمثل في الولايات المتحدة، ربما هو ما جعلها تخبو قبلاً، وتعاود الظهور مؤخراً.
في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وخلال مقابلة له مع محطة الإذاعة الفرنسية (أوروبا 1)، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: «نحن لا نحمي الأوروبيين، إذا لم نقرر أن يكون لنا جيش أوروبي حقيقي».
لم تكن هذه هي المرة الأولى، التي يعرب فيها «ماكرون» عن رغبته، فقد سبق وأشار إلى الأمر عينه في خطاب له في سبتمبر/أيلول 2017 في جامعة السوربون الفرنسية العريقة؛ عندما دعا أيضاً أوروبا إلى إنشاء ميزانية دفاع مشتركة.
ولعل علامة الاستفهام الحقيقية التي يجب تأملها: هل ماكرون وحده من يتطلع إلى فكرة الجيش الأوروبي الموحد في حاضرات أيامنا؟
قبل بضعة أشهر أعلن الاتحاد الأوروبي عن توقيع 23 عضواً من إجمالي 28 هم عدد كامل أعضائه على اتفاقية «بيكو» أي اتفاقية التعاون الدفاعي المنظم، التي توصف ربما تأدباً بأنها ذات مهام تكميلية لحلف الناتو، وليست البديل عنها، وإن كانت تصريحات فيدريكا موغيريني، الممثلة العليا للسياسات الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي تشي بغير ذلك، ما الذي يفهم في هذا السياق؟
بالقطع نحن لسنا أمام توجه فرنسي منفرد، ولاسيما أن الدول الموقعة على الاتفاقية قدمت نحو خمسين مشروعاً مشتركاً في مجالات القدرات الدفاعية العسكرية؛ بهدف تعزيز الاستقلال الاستراتيجي، ومساعدة دول الاتحاد على مواجهة التحديات الأمنية.

ما حال الجيوش الأوروبية اليوم؟

دون تطويل ممل أو اختصار مخل، يوجد في القارة الأوروبية نحو 31 جيشاً، يحتل عدد منها مكانة متقدمة بين أقوى جيوش العالم، ويأتي الجيش الفرنسي كأقوى جيش أوروبي في المرتبة الخامسة عالمياً، وفقاً لموقع «جلوبال فاير بور» الأمريكي، ويصل تعداده إلى نحو 387 ألف جندي، بينهم نحو 183 ألف جندي في قوات الاحتياط.
نحن وفي هذا المشهد أمام ما يشبه التراتبية في التصريحات، تبدأ من عند موغيريني المسؤول الأعلى، وتمر بماكرون صاحب القوة الأكبر لأوروبا المسلحة، الذي يرى ضرورة حتمية لأن تبني أوروبا استقلالية دفاعها بدلاً من شراء الأسلحة الأمريكية، ولا ننسى أن ماكرون وفي مقابلة سابقة له مع شبكة «سي إن إن» الأمريكية، قال: «لا أريد رؤية الدول الأوروبية ترفع من ميزانيات الدفاع لشراء أسلحة أمريكية أو أخرى أو معدات من إنتاج صناعتكم، إذا زدنا ميزانيتنا؛ فالغرض بناء استقلاليتنا».
من يتبقى في أوروبا من أصحاب الأصوات العالية والنافذة؟
الشاهد أنه إذا كانت فرنسا هي الركيزة العسكرية الأوروبية بجانب بريطانيا، فإن ألمانيا بنوع خاص تبقى المحرك والقلب الاقتصادي، الذي لا غنى عنه لأوروبا الموحدة، ولجيشها الذي تتطلع إليه العيون.
لم يكن للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن تصمت طويلاً بعد ماكرون وموغيريني، فقد دعت بدورها إلى بناء جيش متكامل للاتحاد الأوروبي، مرددة تصريحات ماكرون، ومذكرة بدروس الحرب العالمية الأولى والانقسامات التي أدت إلى نشوب الصراع.
أما ميركل فقد خاطبت البرلمان الأوروبي بالقول: ينبغي أن نعمل على رؤية مضمونها أن نبني يوماً ما جيشاً أوروبياً حقيقياً، وإن كانت قد تركت الباب مفتوحاً للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، حين أشارت إلى أن مثل هذا الجيش الأوروبي الموحد لن يقوض التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة أي «الناتو»، ولكنه قد يكون مكملاً له، الأمر الذي حظيّ بتصفيق حاد داخل البرلمان الأوروبي.
عدة أسئلة لابد من التوقف أمامها؛ لمناقشة فكرة الجيش الأوروبي تبدأ من عند لماذا وما الدافع؟ وتمضي إلى الأسباب، التي تجعل الفكرة طرحاً مرفوضاً من الجانب الأمريكي، وأخيراً قراءة الجانب الروسي للمشهد الأوروبي الحديث.
والثابت أن ترامب يبدو دائماً كحجر عثرة في كافة تصريحات وأفكار الجانب الأوروبي، ما يعني أنه بات قوة طاردة للأوروبيينن وليس قوة جاذبة كما الحال في زمن روزفلت وإيزنهاور وغيرهما من القياصرة الأمريكيين الكبار.
على أن جواب السؤال المتعلق بأسباب الرفض الأمريكي لفكرة «جيش الشينجين» عديدة، وتبدأ من عند المخاوف التي تنتاب واشنطن من أن تصحو يوماً ما لتجد جناحها الآخر عبر الأطلسي وقد مضى في إطار شراكة لا تخطئها العين مع روسيا، وتحقيق الحلم الذي راود «شارد ديجول» رجل الجمهورية الفرنسية الخامس عن «أوراسيا»، أي ذلك التجمع الذي يربط كتلة جغرافية وديموغرافية تمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى جبال الأورال شرقاً، ولهذا كان ترامب يعد فكرة ماكرون «مهينة جداً»، فيما كانت «هيذرنويرت» المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية تعلق بالرفض المبطن؛ استناداً إلى أن أي أعمال قد تسهم في إضعاف حلف شمال الأطلسي ترفضها واشنطن.
والمؤكد أن الأمريكيين يدركون جيداً أن انفصال أوروبا بقواتها المسلحة هو الإنذار الأول للحالة التي تعرفها الحضارات والمعنونة «مرحلة فرط الامتداد الإمبراطوري؛ ذلك أن الإمبراطوريات والدول العظمى تنتابها الشيخوخة بالضبط مثل الأفراد، وعند منحنى معين في واقعها التاريخي، تصبح غير قادرة على الدفاع عما امتدت إليه أياديها في زمن القوة المسلحة والوفرة المالية.

أين يوجد الدب الروسي الذي أضحى لاحقاً ثعلباً رشيقاً سريع الحركة؟

في حديثه خلال الأيام القليلة الماضية لقناة «روسيا اليوم» الناطقة باللغة الفرنسية، في إطار مشاركته في فعاليات إحياء مئوية انتهاء الحرب العالمية الأولى في العاصمة الفرنسية باريس، أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن دعمه لفكرة إنشاء جيش أوروبي موحد، رأى أنه قد يمكن أن يكون بديلاً عن حلف شمال الأطلسي.
ذكاء بوتين الاجتماعي والسياسي تأكد حين أضاف أن «أوروبا حليفة وكيان اقتصادي قوي؛ لذلك رغبة الدول الأعضاء في الاتحاد بالاستقلالية والسيادة أمر طبيعي جداً».
بالقطع لم يكن بوتين ليوفر فرصة شقاقية بين أوروبا وأمريكا، التي لا تنفك تفرض عقوبات على بلاده، ولهذا اعتبر أن هناك أهمية بالفعل لإنشاء جيش أوروبي موحد، في عالم متعدد الأقطاب.

هل من خلاصة للسطور السابقة؟

يمكن القطع بأن العالم الذي عرفناه بعد نهاية الحرب الكونية الثانية ليس هو الحادث عالمياً الآن، وأن تغيرات «البنى التكتونية»، وانصهار الطبقات الجيواستراتيجية السياسية حول العالم، حكماً ستولد عالماً جديداً، أمريكا ليست سيدته في الحال أو الاستقبال، وربما تخبرنا قصة «جيش الشينجين» أن زمن الفطام الأوروبي الأمريكي قد بات على الأبواب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"