حشرات المستقبل جواسيس إلكترونية

ترصد وتسجل كل الاشياء من حولها
13:54 مساء
قراءة 7 دقائق

تعودنا منذ قديم الزمن على إزعاج الحشرات مثل الذباب والبعوض والبق والعثة وغيرها حيث يندفع بعضها إلى الغرفة فور فتح الباب أو النافذة لكن هذه الحشرات لن تكتفي في المستقبل بازعاجك ومضايقتك بل سترصد كل ما يخرج من فمك وتسجله وربما ترصد حركاتك وتصرفاتك بالكلمة والصورة أي انها سوف تتجسس عليك. وإذا كنت تعتقد أنها مخلوقات ضعيفة بريئة ولا حول لها ولا قوة فإنها في الواقع قد تكون جاسوسة. وفي السنوات الاخيرة انتجت المختبرات والمعامل التقنية في العالم وفقست سلالات وأجيالاً من الحشرات والحيوانات الآلية التي يمكن تشغيلها كجواسيس حيث سجل العلم تقدما كبيرا بحيث اصبح من الممكن التحكم بحركة وطيران هذه الحشرات وهبوطها وإحساسها وحركة اعضاء جسمها بواسطة أجهزة التحكم عن بعد ريموت كونترول التي ترسل إشارات لاسلكية أو الكترونية وكهربائية إلى أجهزة استقبال متناهية الدقة والصغر مزروعة في رأس الحشرة أو اجنحتها أو بطنها.

إذا أمكن التوصل إلى اختراع أو تصنيع ذبابة أو بعوضة آلية أو الكترونية بالكامل فإن من الممكن أن يأتي ذلك اليوم الذي يتم فيه تحويل الحشرات الطبيعية الحية من دم ولحم إلى حشرات آلية من خلال زرع أجهزة استقبال في أجسامها وتشغيلها بالريموت كونترول أو من مسافات بعيدة، وليس هناك ما يبعث على الدهشة والاستغراب لأن العلماء والباحثين نجحوا في تطوير وانتاج أجهزة للتحكم عن بعد بالفئران والجراذين والحمام وحتى أسماك القرش العملاقة، والدافع وراء هذا ببساطة هو: محاولة انتاج واختراع أجهزة آلية تحاكي حركات وتصرفات الحشرات والحيوانات الطبيعية منذ بدء الخليقة والحياة قبل ملايين السنين حتى يكون هذا الجهاز أو النظام الآلي وسيلة مساعدة للانسان لتفادي خطر هذه الحيوانات وفهم سلوكها ونظام حياتها على نحو أفضل واكثر عمقا.

وفي هذا الشأن يقول جون هيلدبراند اختصاصي علم اعصاب الحشرات في جامعة اريزونا في توكسون: إن الانسان أمضى وقتا طويلا في محاولاته لاختراع جهاز انسان آلي صغير - روبوت - يعمل ذاتيا بالكامل دونما مساعدة أو تدخل ولكني أظن أن كثيرا من العلماء والمهندسين أدركوا جيدا أنه ليس باستطاعتهم تطوير الطبيعة الأم أو إدخال تحسينات أو تعديلات عليها. فقد منّ الله على الحيوانات بقدرات خاصة بالاحساس والمراقبة والرصد والشم تفوق معظم ما تم التوصل اليه من أجهزة تقنية في هذا الشأن، فأسماك القرش والجراذين وحشرات العثة على سبيل المثال تتمتع بقدرة مذهلة على الشم ومجهزة طبيعيا بما يمكنها من رصد واقتفاء أثر أضعف وأقل الآثار الكيميائية والمواد مهما كان تركيبها.

وإذا كان يمكن للانسان ان يخفي بمهارة ونجاح جهاز التحكم والسيطرة في أي عضو داخل جسم الحشرة أو الحيوان الآلي فإنه لن يكون الجاسوس المثالي حيث سيكون حتما عاجزا عن التمييز بين الروائح أو المواد أو الاشياء التي تنتمي إلى طبيعة واحدة خالصة.

وكان العالم الباحث خوزيه دلجادو من جامعة يال الامريكية سبّاقا إلى اختراع اول حيوان آلي في الخمسينات من القرن الماضي، واليه يعود أيضا فضل اكتشاف أفضل الاماكن والمواقع في الدماغ أو بقية اعضاء الجسم لزراعة أجهزة الاستقبال أو التحكم في عدة انواع من الحيوانات، ففي عام 1963وفي حركة درامية مثيرة حبست الانفاس وقف دلجادو وسط حلبة لمصارعة الثيران في قرطبة باسبانيا حيث اندفع أحد الثيران التي زرع في دماغها جهازا للتحكم نحوه بقوة وسرعة مهاجما ولكن وفي غضون ثوان قليلة أبطأ الثور في اندفاعه ثم توقف تماما بمجرد نقرة من دلجادو على جهاز التحكم الذي كان بيده.

وظلت فكرة الحيوان الالكتروني أو الآلي طافية على السطح ولكن بلا اهتمام وتركيز حقيقي على تطويرها باعتبارها ضمن موضوعات الخيال العلمي على مدى العقود القليلة الماضية حتى عام 2002 حينما اعلن فريق من العلماء والباحثين بقيادة جون تشابن من مركز العلوم الصحية التابع لجامعة نيويورك في بروكلين أنه تمكن من إنتاج وتطوير جرذان آلية يمكن التحكم بحركتها عن بعد من خلال التواصل مع أجهزة استقبال الكترونية تم زرعها في دماغه وينجم عن تشغيلها إحساس يماثل إحساسه بشعرات شاربه الايسر أو الايمن لحظة لمسها برفق أو تمليسها وتسريحها، ثم تم تدريب الجرذان على الاستجابة الكهربائية أو الآلية لكل ما هو مثير، وعلى سبيل المثال كان يتحرك يمينا حينما يحدث اتصال بين جهاز الريموت كونترول والجهة اليمنى من الدماغ والمترتبة عليها حركة شاربه الايمن. وفي وقت لاحق بعد ذلك انضمت ليندا هيرمر فاسكويز من جامعة فلوريدا في جينزفيل إلى ابحاث الفريق المذكور وتجاربه لتدريب جرذان آلية على تحديد رائحة ما أو التمييز بين رائحة وأخرى مثل روائح البشر والمتفجرات وذلك لخدمة البحث العلمي وعمليات بعثات الانقاذ وخاصة التي تعمل على البحث عن المدفونين تحت الانقاض والركام وانتشالهم وتحديد أماكن القنابل عن بعد من خلال شم رائحتها مسبقا.

ثم تم تثبيت كاميرات فيديو دقيقة وصغيرة للغاية على ظهور افراد جيل كامل وكبير من الجراذين تم تدريبها على التحرك في المنطقة المراد تفتيشها ومسحها بحثا عن بقايا وآثار متفجرات، وقالت فاسكويز: حينما أحست الجرذان وأدركت أنها ليست تحت المراقبة والسيطرة دخلت في مزاج ممتاز وطيب لشم رائحة معينة وفي غضون دقائق نجحت في تحديدها ومعرفة مصدرها ومع تكرار الاختبار ذاته كانت النتائج رائعة.

ومن السهل على الجرذان تحديد مصدر الرائحة المقصودة كهدف خلال التجارب والاختبارات المعملية في المختبرات وأما في المجال الذي يعمل فيه ذلك الفريق العلمي فإن هناك حاجة للتأكد بواسطة اجهزة الريموت من أن الجرذ الآلي وجد الرائحة الهدف وحددها. ثم بدأ العلماء في تطوير عمليات زرع وتثبيت أجهزة رصد وتحكم في الدماغ لالتقاط الاشارات العصبية ليقوم جهاز ارسال مثبت على الظهر بنقلها على مراحل إلى مقر السيطرة والتحكم ولكن التقدم في هذا المجال اصبح بطيئا عام 2005 حينما اوقفت وكالة الدفاع الامريكية لمشروعات الابحاث المتطورة تمويل الدراسة وما يتصل بها من ابحاث وتجارب.

ويخطط فريق تشابن حاليا لنقل ما توصل اليه من تقدم علمي وتكنولوجيا متطورة إلى الطيور على أمل الاستفادة بشكل أكبر في مجال الاستطلاع والاستكشاف. وأجرى فريق آخر بقيادة سو كسيو تشينغ من جامعة العلوم والتكنولوجيا في كينج داو الصينية العام الماضي تجارب على طيور حمام زرعت في أدمغتها أقطاب كهربائية تسمح بتوجيهها والتحكم بحركتها من خلال إشارات لا سلكية صادرة عن كمبيوتر محمول - لاب توب.

وفي مشروع آخر لوكالة الدفاع الامريكية للمشروعات المتقدمة أظهر جللي أتيما من جامعة بوسطن أنه قادر على التحكم بحركة واتجاه احدى أسماك القرش الصغيرة والتي تسمى سمكة كلب البحر الشوكية بعد زرع وتثبيت جهاز استقبال في دماغها بحيث يمكن توجيهها إلى اليمين أو اليسار لملاحقة الرائحة وذلك تبعا للتواصل اللاسلكي مع يمين مركز الشم والتشمم أو يساره.

ويقول العلماء إن العمل مع هذه الحيوانات واستخدامها للاغراض العلمية مثل الجرذان والحمام وسمك القرش مفيد وجيد لأن حجمها يسمح بوضع وتثبيت كاميرات وأجهزة كمبيوتر صغيرة ومجسات وبطاريات كبيرة الحجم نسبيا وقابلة للتشغيل لفترة طويلة على ظهورها لكن الحجم الكبير لهذه الحيوانات في حد ذاته يخلق صعوبات عملية عدة مما دفع الوكالة إلى التحول في مشروعاتها الاخيرة إلى الحشرات لصغر حجمها وخفة حركتها ورشاقتها ولا سيما مشروع أجهزة المايكرو إلكترو ميكانيكال سيستيمز للحشرات الهجينة الذي يركز على دراسة حركات وتصرفات الحشرات الطائرة الصغيرة من خلال استجابتها للتواصل الالكتروني مع الاجهزة والاقطاب الكهربائية المثبتة في أجسامها وتطوير تقنيات جديدة تعزز سرعة ودقة الابحاث والتجارب على هذه الحشرات وخاصة في المرحلة الانتقالية من نموها بين مرحلتي اليرقة والحشرة الكاملة حيث تمكن الباحثون العاملون في هذا المشروع من تطوير واختراع مئات من أجهزة المسبار والمجسّات المتناهية الصغر لاستخدامها مع الحشرات الضعيفة الصغيرة ولكن الباحثين تلقوا تعليمات صارمة من الوكالة بالتزام الصمت وعدم التحدث بأي تفاصيل عن نتائج دراساتهم وابحاثهم.

كما كان موضوع الحيوان الآلي بشكل عام سواء كان حشرة أو أكبر محور البحث والاهتمام في مؤتمر عقد لهذا الغرض في توكسون بولاية أريزونا في يناير/ كانون الثاني الماضي حيث تمت مناقشة ابحاث واوراق عمل وخلاصة تجارب لشركات تقنية ومجموعات علمية وباحثين، كما عرضت في المؤتمر لقطات فيديو لتجارب اجراها فريق من معهد بويس تومسون في إيثاكا في نيويورك بقيادة ديفيد شتيرن على عمل مجسات واجهزة مسبار تمت زراعتها في حشرة عثة التبغ أثناء طورها الانتقالي من اليرقة إلى الحشرة الكاملة.

واستنادا إلى الورقة التي قدمها هذا الفريق للمؤتمر فإن أعضاءه نجحوا في تصميم وانشاء جهاز للسيطرة يعمل بالبطارية ويمكن حمله على ظهر الحشرات لكن الورقة لم تشر إلى ما إذا كان الفريق قد توصل إلى تطوير حشرة عثة آلية بالكامل قادرة على الطيران لتطوير وتجربة ما توصلوا اليه من تقنيات وتقدم تكنولوجي.

وفي غضون ذلك قامت الوكالة الامريكية المذكورة بتمويل مجموعة علمية أخرى برئاسة مايكل مهاربز من جامعة كاليفورنيا في بيركلي بدراسة علمية تتضمن تجارب معملية على نوع معين من حشرة الخنفساء وهي خنفساء جرين جون بزرع أجهزة استقبال الكترونية متناهية الدقة في أدمغتها للتحكم في طيرانها وهبوطها وتوجيه حركتها حيث حقق الفريق نتائج جيدة.

ولكن على الرغم مما حققته هذه المشروعات والابحاث لفريق مهاربز وشتيرن وغيرهما من تقدم إلا أن الطريق ما زال طويلا أمام العلماء والباحثين لتتويج جهودهم بالتوصل إلى الحشرة الجاسوسة الشبح القادرة على التخفي.

يقول تشارلز هييجنز من جامعة اريزونا الذي شارك في المؤتمر إن هناك جملة من الافكار والاهداف تدور في أذهان مسؤولي الوكالة الامريكية للمشروعات المتقدمة ومنها ايجاد حشرات الكترونية وآلية قادرة على الطيران لمسافة مائة متر على الاقل بعيدا عن مصدر التحكم فيها والهبوط في مجال لا يزيد على خمسة أمتار حيث يوضح هيجنز في هذا الشأن يجب عليك توخي الحذر في طريقة رصد ومراقبة حركات الخنفساء أو غيرها موضوع التجربة وكيفية طيرانها وتسجيل مجموعة من التحركات التي تجعلها مختلفة عن الحشرة الطبيعية التقليدية وتجنب أي تزاحم أو اكتظاظ فوضوي للاشارات اللاسلكية أو الالكترونية المتوجهة من مصدر التحكم والسيطرة إلى المجسات والاجهزة المزروعة في جسمها لأن ذلك يفسد التجربة ونتائجها. كما يشير إلى أن الحشرات الآلية والمصنعة لا يمكن أن تتفوق على الطبيعية الحية القادرة بحكم الغريزة على التعرف إلى الأهداف والأشياء وتحديد هويتها ورصد أي حركة وتمييزها.

ويمكن القول في النهاية إن التجارب والابحاث على الحيوانات الآلية لم تصل حتى الآن إلى نتائج شافية ومقنعة أو حاسمة وان بعضهم يرى أنها خدعت العلماء والباحثين في مجالات أخرى ولا تقدم تفسيرات مكتملة أو منطقية لكثير من تساؤلات العلماء على حد قول مايكل ديكنسون من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا. ولكن علينا ان نكون على حذر لأن استمرار العلماء والباحثين في هذا الطريق انجاز المزيد من الخطوات والتقدم يأتي الوقت الذي يجد أحدنا نفسه فيه مضطرا للتسلح بعبوة بخاخ مبيد للحشرات ومجموعة فعالة من الاسلحة التقليدية للحفاظ على امنه وسلامته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"