خيارات أردوغان «الصاروخية» الصعبة

03:43 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

بعد تصريحات ومجادلات خشنة، وتهديدات متفاوتة الشدة بفرض العقوبات، استمرت طويلاً بين واشنطن وأنقرة حول صفقة صواريخ «إس- 400» الروسية لتركيا، وضع البنتاجون حداً للنقاش بتوجيه ما يمكن تسميته «إنذاراً أخيراً» لأردوغان، من خلال رسالة وجهها وزير الدفاع الأمريكي بالوكالة باتريك شيناهان إلى نظيره التركي خلوصي أكار، بأنه إذا لم تتخلَّ تركيا عن صفقة الصواريخ الروسية حتى نهاية شهر يوليو المقبل، فإن واشنطن ستلغي صفقة طائرات «إف- 35» المتفق عليها بين البلدين، وستوقف تدريب الطيارين والفنيين الأتراك المرتبطين بالصفقة، وتعيدهم إلى بلادهم.
مصداقاً لهذا، تقرر استبعاد تركيا من حضور اجتماع المائدة المستديرة للدول المشاركة في صنع «إف- 35» المقرر عقده في بلجيكا خلال أيام، تمهيداً لتعليق مشاركة تركيا في صياغة الوثائق الخاصة بمشروع تطوير الطائرة الأمريكية الأحدث والأكثر تقدماً.. ومن ثم لمشاركتها في صناعة أجزاء من الطائرة، على الرغم من أن هذا قد يؤخر الإنتاج المتسلسل للطائرة.
وفي الوقت نفسه أكد شيناهان -وهو ما لم تهتم وسائل الإعلام بتسليط الوضوء عليه- أن واشنطن تقدم لتركيا «عرضاً مغرياً جداً» لشراء منظومات «باتريوت» الأمريكية المضادة للطائرات والصواريخ كبديل ل «إس- 400» الروسية.
ومعروف أن صفقة الصواريخ الروسية كان قد جرى توقيعها في ديسمبر / كانون الأول 2017، وتقضي بتزويد تركيا بأربع منظومات من صواريخ «إس- 400» مقابل «205 مليارات دولار».
وقد أثارت الصفقة وقتها دهشة واسعة في العالم كله، كما أثارت انتقادات واسعة في الولايات المتحدة والعواصم الغربية وأوساط حلف الأطلسي (الناتو)، نظراً لأن تركيا عضو أساسي في الحلف، وترتبط أنظمتها التسليحية كلها بأنظمته، التي صُممت الأسلحة الروسية في مواجهتها.
وأكد الخبراء العسكريون الأمريكيون والغربيون أن نشر الصواريخ الروسية وعملها على الأراضي التركية يقتضي بالضرورة معرفة تفصيلات عن آليات عمل الطيران العسكري التركي، الأمريكي الصنع أساساً، خاصة عن الطائرات الحديثة «إف- 35»، وهو ما يمثل انتهاكاً للأسرار العسكرية، كما أن أجهزة الرادار المرتبطة بصواريخ «إس- 400» ستغطي الأراضي التركية كلها، حيث توجد قواعد أمريكية وأطلسية في مقدمتها قاعدة «إنجرليك» الكبرى، وأن بإمكان روسيا وضع أجهزة أو برامج تمثل نافذة خلفية لتسريب كل هذه الأسرار لديها عبر منظومات الصواريخ، حتى وهي تحت الإدارة التركية.
لكن أردوغان ظل مصراً طوال الوقت على أن كل هذه المخاوف الأمنية الأطلسية يمكن للخبراء إيجاد حلول فنية لها، ولذا فلا داعي للمبالغة فيها. ومن ناحية أخرى يركز أردوغان على فكرة سيادة تركيا واستقلال قرارها، ورفضها الضغوط والتهديد بالعقوبات.
ولكن ما الذي يجعل أردوغان يركب هذا المركب الصعب، ويغامر بإغضاب أمريكا في مسألة بهذه الحساسية؟
الواقع أنه كان قد سبق نشر عدد من بطاريات صواريخ «باتريوت» بالقرب من حدود تركيا الجنوبية مع سوريا في أوائل عام 2013 بإشراف أطلسي ومشاركة أمريكية - هولندية.. بناء على طلب أنقرة، بقرار محدد المدة «3 سنوات» تحسباً لشن هجمات صاروخية من جانب الجيش السوري، أو بمعرفة حلفائه الإيرانيين.
رداً على الدعم التركي الواسع للمنظمات الإرهابية الناشطة في سوريا.. وعلى الرغم من ضعف هذا الاحتمال وقدرة تركيا على الرد، فإن نشر هذه الصواريخ «باتريوت» كان يمثل نوعاً من استعراض الدعم الأطلسي لأنقرة، والتضامن معها.
إلا أن هذه الصواريخ سُحبت تباعاً بعد تقييم الموقف العسكري والأمني، وهو ما أثار استياء تركيا التي كانت ترغب في الحصول على صواريخ «باتريوت» تعزيزاً لقوتها الدفاعية ومكانتها، وأسوة بدول «الناتو» الأخرى، غير أن هذه الرغبة اصطدمت بنوع من الفتور الأمريكي، وباقتراح طرز غير حديثة من «الباتريوت»، وبأسعار وشروط دفع اعتبرتها أنقرة غير مناسبة «أشارت التقارير الصحفية إلى مليار دولار ثمناً للبطارية مقابل 500 مليون ثمناً للبطارية من صواريخ (إس- 400) الأكثر تقدماً»، كما أن هناك دائماً شبح معارضة الكونجرس، والشروط بشأن التعامل مع الأكراد، وحقوق الإنسان.. إلخ.
ثم شهد عام 2016 محاولة الانقلاب الفاشلة، التي اتهم أردوغان واشنطن بالوقوف وراءها، وأشارت التقارير إلى دور للمخابرات الروسية في التحذير منها.. كما رفضت الولايات المتحدة تسليم المعارض التركي «فتح الله جولن» المقيم على أراضيها، والذي يتهمه أردوغان بتنظيم محاولة الانقلاب. وأدى هذا كله إلى زيادة التوتر بين الطرفين.
وعلى هذه الأرضية جاء الاتفاق مع روسيا على صفقة ال «إس- 400»، وهو ما رفع مستوى التوتر بشدة مع واشنطن، ثم تفجرت قضية تسليم القس البروتستانتي «برانسون» والضغوط الأمريكية الكبيرة لتسليمه بعد مراوغات طويلة من جانب أردوغان، وترافق هذا كله مع الدعم الأمريكي الكبير للأكراد في شمال سوريا، ليزيد التأزم في العلاقات بين الطرفين، ولتبدأ تغريدات ترامب المعادية لتركيا، ما كان له أثره الفادح في الاقتصاد التركي، حيث تراجعت الثقة فيه، وتراجع تدفق الاستثمارات الأمريكية والأجنبية على تركيا بنسبة «22% عام 2018 مقارنة بالعام السابق»، ونزوح الاستثمارات الأجنبية عن تركيا.. وهو ما أدى لانهيار الليرة التركية إزاء الدولار. وبعد ذلك جاء فرض الرسوم الجمركية الأمريكية على الحديد «25%» والألمنيوم «10%» ليؤثر بشدة في الاقتصاد التركي، ثم جاءت العقوبات التي فرضها ترامب على أنقرة بمضاعفة الرسوم إلى «50% و20% على الصلب والألمنيوم» لتزيد من متاعب الاقتصاد التركي.
لهذا كله نعتقد أن مكابرة أردوغان وسلوكه «العثملي» قد أدخلاه في مأزق صعب، وأنه يبحث عن حل لأزمة الصواريخ، خاصة أنه مهدد بعقوبات جديدة في حالة الإصرار على الصفقة الروسية «منها مثلاً رفض أمريكا التصريح له بتصدير 30 طائرة هيلوكوبتر بها مكونات أمريكية إلى باكستان بقيمة 1.5 مليار دولار».
كما أن اقتصاد بلاده يواجه عبء اتساع فاتورة النفط والغاز بعد اضطراره لوقف الاستيراد من إيران بشروط تفصيلية مريحة.
لهذا كله لا نستبعد أن يكون أردوغان مضطراً للتفكير في حل لتأجيل الصفقة الروسية أو إلغائها على مراحل. وهنا لا يمكن تجاهل لعبته الخشنة مع روسيا في إدلب، ودعمه المكشوف للإرهابيين. كما تشير التقارير الصحفية إلى تصاعد اللهجة العدائية ضد روسيا في الإعلام التركي الموالي لروسيا. وفي هذا كله محاولة لاسترضاء أمريكا «الأهرام 4 يونيو / 2019». وقد سهل له ترامب المهمة بإبلاغه أن صفقة «الباتريوت» ستمر في الكونجرس، وهي الصفقة التي قال شيناهان عنها: إنها «مغرية جداً».
وتقديرنا أنه لو اضطر لهذا السيناريو، وأخرجه بطريقة لائقة، فإن بوتين من البراجماتية وإدراك حقائق الواقع، بحيث سيقبل بإلغاء صفقة ال «إس- 400» دون أن يسبب مشكلات كبرى لأردوغان، وخاصة إذا حصل على ترضية مناسبة في إدلب مثلاً، فالكرملين يدرك جيداً أن ما يواجهه أردوغان مع أمريكا هو معركة إرادة «وتكسير عظام»، والأرجح أنه لن يغامر بفقدان كل شيء مع تركيا، من أجل صفقة الصواريخ، فهناك مصالح أخرى كبيرة تستحق الحفاظ عليها.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"