روسيا وأوروبا.. أزمة مفتوحة

02:33 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. نورهان الشيخ *

في أعقاب انضمام شبه جزيرة القرم لروسيا في مارس/آذار 2014، وعلى خلفية الأزمة الأوكرانية، وفي إطار عدد من الإجراءات التصعيدية والعقابية التي قادتها واشنطن والاتحاد الأوروبي لمواجهة موسكو، فرض الاتحاد الأوروبي ثلاث حزم من العقوبات على روسيا تتضمن حظر سفر مواطنين روس، وفرض عقوبات اقتصادية ضد عدد من مؤسسات النفط التابعة للدولة وشركات الصناعات العسكرية والشركات المالية، أما الحزمة الأخيرة فتمثلت في عقوبات مرتبطة بالقرم.
تتجدد الحزمتان الأوليان كل ستة أشهر بينما تتجدد حزمة العقوبات المرتبطة بالقرم كل عام، وعلى مدى خمس سنوات اتسع نطاق العقوبات الأوروبية من حيث المجالات والمسؤولين دون أفق لانفراج وشيك.
والواقع أن العقوبات والعقوبات المضادة التي فرضتها روسيا على دول الاتحاد الأوروبي لم تؤثر فقط على روسيا، ولكن كان لها تأثير واضح على اقتصادات بعض الدول الأوروبية والاقتصاد الأوروبي عامة، الأمر الذي ألقى بظلال واضحة على التوافق الأوروبي حول استمرار العقوبات المفروضة على روسيا، وشهد الاتحاد الأوروبي جدلا بين مجموعتين من الدول، الأولى ترى ضرورة تشديد العقوبات على روسيا وتقودها بريطانيا وبولندا ودول البلطيق، أما الثانية فتضم الدول التي تضررت على نحو ملحوظ من العقوبات، ومن ثم فهي أميل إلى التهدئة مع روسيا، مثل المجر واليونان. وانحاز مجلس الاتحاد الأوروبي للفريق الأول وتم تمديد العقوبات بشكل منتظم كل 6 أشهر، كان آخرها في 13 سبتمبر/أيلول الماضي لمدة ستة أشهر حتى منتصف مارس/آذار من العام الجاري، والبعض الآخر، المتعلق بقطاعات محددة من الاقتصاد الروسي، تم تجديدها في 21 ديسمبر/كانون الأول حتى نهاية يوليو/تموز القادم. وفي 21 يناير/كانون الثاني تم فرض حزمة جديدة من العقوبات الأوروبية على روسيا شملت رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الروسي، إيجور كوستيوف، ونائبه وعنصرين آخرين، لتطول «اللائحة السوداء» التي أصبحت تضم 155 شخصية من بينهم مقربون من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى جانب 44 مؤسسة وشركة روسية.
جاءت الحزمة الأخيرة رغم ما تردد عن معارضة فرنسا وألمانيا لفرض أي عقوبات جديدة ضد روسيا على خلفية التوتر الحاصل في مضيق كيرتش بين موسكو وكييف في 25 نوفمبر/تشرين الثاني، وتأكيدهم على أهمية تبني «إجراءات بناء الثقة» مع روسيا. وكذلك دعوة نائب رئيس الوزراء الإيطالي ووزير الداخلية، ماتيو سالفيني، في 11 سبتمبر/أيلول لإعادة النظر في العقوبات المفروضة على روسيا، مؤكداً أنه لا يرى «في العقوبات ضد روسيا أي جدوى».
رغم ذلك يدفع السياق المتأزم للعلاقات الغربية الروسية نحو استمرار العقوبات الأوروبية على موسكو، وربما اتساعها مستقبلاً. فالأزمة الأوكرانية التي كانت سببا مباشرا في متوالية العقوبات على روسيا ما زالت حاضرة وازدادت تعقيداً على خلفية حادثة مضيق كيرتش. وكانت قمة للاتحاد الأوروبي قد اتخذت قراراً في مارس 2015 يجعل إلغاء العقوبات ضد روسيا رهناً بتنفيذ اتفاقيات مينسك حول أوكرانيا، وذلك رغم تأكيد موسكو مراراً أن تنفيذ اتفاقيات مينسك يعتمد بشكل أساسي على أطراف الأزمة الأوكرانية، وأن روسيا ليست طرفا في الأزمة ولا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وأنها على قناعة بأن الهدف من العقوبات ليس المساعدة في تسوية الأزمة الأوكرانية وإنما النيل من قوتها الصاعدة ووضعها كعملاق للطاقة.
كذلك الحال فيما يتعلق بما بات يُعرف بقضية سكريبال، وهي القضية التي تفجرت في أعقاب محاولة اغتيال ضابط جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية السابق والجاسوس البريطاني، سيرجي سكريبال، وابنته من خلال هجوم بغاز أعصاب يوم 4 مارس 2018، بمدينة سالزبري البريطانية، واتهمت لندن مسؤولين في الاستخبارات العسكرية الروسية بالوقوف وراء الحادث، وتبادلت على إثرها 29 دولة غربية وروسيا طرد عشرات الدبلوماسيين بعد أن أعلنت هذه الدول تضامنها مع بريطانيا، كما قام حلف شمال الأطلسي (الناتو) بطرد عشرة روس من بعثته في بروكسل. وقد تم فرض الحزمة الأخيرة من العقوبات خلال الشهر الجاري على خلفية القضية واتهام مسؤولي الاستخبارات العسكرية الروسية بتسميم سكريبال.
يضاف إلى هذا بروز قضايا ستؤدي على الأرجح إلى مزيد من التعقيد في العلاقات الروسية الأوروبية، لعل من أهمها تلك المتعلقة بمعاهدة الحد من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى. فرغم أن واشنطن هي التي أعلنت انسحابها من المعاهدة فإن أمين عام حلف الناتو، ينس ستولتنبرج، حمّل روسيا المسؤولية كاملة في هذا الخصوص. وفي ختام اجتماع مجلس روسيا الناتو يوم 25 يناير بشأن المعاهدة، أشار إلى أن جميع أعضاء الحلف يعتبرون أن هذه المعاهدة حاسمة بالنسبة للأمن الأوروبي الأطلسي، وأنه لا يرى أي علامات على حدوث انفراج بشأنها، وأكد ستولتنبرج أن المشكلة تكمن في الصواريخ الروسية في أوروبا، ودعا روسيا للعودة إلى الامتثال الكامل للمعاهدة، وتدمير نظام صواريخ كروز، التي يمكنها حمل رؤوس نووية، قبل انتهاء المهلة التي حددتها واشنطن لذلك في الثاني من فبراير/شباط. هذا في حين ترى موسكو أن أقصى مدى للصاروخ «نوفاتور 9 إم 729/ إس.إس.سي-8» يبلغ 480 كيلومترا، وأن قصر مدى الصواريخ يضعها خارج المعاهدة التي تحظر على الولايات المتحدة وروسيا امتلاك أو إنتاج أو اختبار إطلاق صواريخ كروز يتراوح مداها بين 500 و5500 كم، وكذلك امتلاك أو إنتاج قاذفات لمثل هذه الصواريخ، وتتهم روسيا الولايات المتحدة باختلاق حجة واهية للخروج من المعاهدة وأنها ستنسحب منها في جميع الأحوال كي تطور صواريخ جديدة.
يفاقم من تصاعد المواجهة بين روسيا والغرب الأزمة الفنزويلية التي اندلعت باعتراف واشنطن رسمياً برئيس الجمعية الوطنية الفنزويلية خوان جوايدو رئيساً لفنزويلا، ومطالبة الرئيس نيكولاس مادورو بالتنحي، وتهديد ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا بأنها ستعترف بجوايدو رئيسا مؤقتا للبلاد إذا لم يقم مادورو خلال ثمانية أيام بالدعوة لإجراء انتخابات رئاسية جديدة في البلاد بحضور مراقبين دوليين، وهو ما رفضه مادورو، هذا في الوقت الذي أكدت فيه موسكو دعمها للرئيس مادورو.
إن اتساع هوة الخلافات الروسية الأوروبية حول قضايا سياسية واستراتيجية عدة لا يسمح بتهيئة الأجواء لمراجعة ملف العقوبات الأوروبية على روسيا، خاصة مع الضغوط الأمريكية على حلفائها الأوروبيين لاستمرار وتوسيع العقوبات أملاً في أن يؤدي ذلك إلى تغيير المواقف والسياسات الروسية، فالعقوبات هي أحد أبعاد سلسلة ممتدة من الخلافات الهيكلية بين روسيا والغرب، يحاول من خلالها الأخير التضييق على روسيا والضغط عليها في عدد من الملفات المهمة بالنسبة له، والتي أصبحت المواقف الروسية تجاهها تهدد مصالحه. ومن الواضح أن روسيا لا تنصاع إلى ضغوط الغرب، ولديها إصرار واضح على نهج الاستقلال في سياستها الخارجية والتعامل مع الغرب من منطلق الندية.

* أكاديمية مصرية متخصصة بالشؤون الروسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"