سينما الامارات ... "الحشرة" خط فاصل بين العقل والجنون

يجمع بين الأفلام النفسية والرعب في آن
01:06 صباحا
قراءة 4 دقائق
تلعب عناوين الأفلام الأمريكية خلال الفترة الأخيرة كثيرا على التورية اللفظية، حتى إنه قد يصعب ترجمة أحد هذه العناوين دون إشارة إلى المعاني المتضمنة الأخرى، وهو الأمر الذي ينطبق إلى حد كبير على فيلم الحشرة، فتلك هي الترجمة القريبة التي سوف نجد لها وجودا قويا في الحبكة الدرامية، لكن الكلمة الإنجليزية ذاتها قد تعني المجنون أو أداة التجسس أو خلل صغير في نظام ما، لكنه قد يؤدي بهذا النظام إلى الانهيار. ومن الغريب لكنه من المقصود والمتعمد تماما أن تجد لكل هذه المعاني دلالات داخل عالم الفيلم، الذي كتب له السيناريو تريس ويليامز عن مسرحية له، ليقوم بالإخراج الشهير ويليام فريدكين.ربما لا يكون للمخرج فريدكين عالم فني خاص، لكن السمة الأساسية فيه هي الاحتراف، فهو لا يتخذ لنفسه أسلوبا واحدا يكرره في أفلامه، لكن براعته الحقيقية أنه يختار الأسلوب الملائم لكل فيلم، بل إنه داخل الفيلم الواحد يتبنى تقنيات مختلفة، يجمعها معا هدف واحد، أن تصبح الشخصية والحدث الدراميان في أقوى صورهما. ذلك لا ينفي أنه لا يعمد إلى الغموض أحيانا، فتلك هي إحدى حيله الفنية لإثارة تشويق المتفرج، وفيلم الحشرة خير دليل على ذلك. شيئا فشيئا يدخل المتفرج إلى عالم الفيلم، يتفاعل مع البطل والبطلة حتى يكاد يتوحد معهما، فيجد نفسه محاصرا في حبكة خانقة، لن يعرف حتى النهاية إن كانت حقيقة أم خيالا، أو إذا ما كانت تحكي عن وقائع صحيحة أم أنها ليست إلا ضربا من الهلوسة والجنون، وهنا يأتي دور الدلالات المتعددة التي أشرنا إليها ويحملها عنوان الفيلم.وسوف يظل فيلم الحشرة لصيقا بأصله المسرحي، فالأحداث تدور لمجموعة محدودة من الشخصيات داخل مكان مغلق، لكن ذلك هو أيضا جزء من المعنى في الفيلم، الذي يبدأ في غرفة تغطي حوائطها الرقائق المعدنية، وتضيئها أنوار خافتة زرقاء، بينما ترقد جثة رجل وسط بركة من الدماء لن يدرك المتفرج سياق هذا المشهد الافتتاحي الكابوسي إلا لاحقا، وربما ربطه ببداية الأحداث عندما نرى البطلة اجنيس هوايت اشلي جود تدخن لفافة من المخدرات خارج غرفتها في فندق متواضع بينما تتلقى بين الحين والآخر مكالمة مجهولة لا ينطق فيها المتصل بكلمة واحدة، مما يزيدها توترا، وهو التوتر الذي سوف ينتقل إلى المتفرج كلما انطلق صوت الهاتف برنينه المزعج المنذر بكارثة غامضة قريبة. إن اجنيس تعتقد أن من يتصل هو زوجها السابق جيري هاري كونيك جونيور الذي خرج لتوه من السجن، ويبدو أنه يلاحقها حتى انها استصدرت أمرا بعدم اقترابه منها.تعمل في حانة رخيصة للنساء ذوات الميول المنحرفة، صديقتها المقربة الوحيدة هي ارسي لين كولينز التي سوف تعرفها بشاب غريب الأطوار يدعى بيتر إيفنز مايكل شانون، العائد من الخدمة العسكرية في الشرق الأوسط، ويبدو أنه لا يجد مأوى للإقامة ليلة أو اثنتين، وهكذا تنتهي به الحال للإقامة لدى اجنيس، لكنه لا يبدي اهتماما بها، حتى إنه يثير الريبة للحظة في أنه قد يكون قاتلا سفاحا، الأمر الذي ينفيه بيتر ببساطة ساذجة عن نفسه. كل التفاصيل في هذه المقدمة الدرامية واقعية وكابوسية في آن واحد، لكنها ترسم بضربات فرشاة سريعة، وهذه ملامح المجتمع الأمريكي الذي لا نعرف عنه شيئا لأنه يدور في آلاف المدن الصغيرة التي لا تظهرها الأفلام الأمريكية في العادة، إنه مجتمع يعاني فيه الجميع من الشعور بالوحدة، والعجز عن التواصل، وشذوذ العلاقات والهرب من ماضٍ قريب ترك ندوبا عميقة في النفس والروح.غرابة تصرفات بيتر، يقابلها قلق اجنيس، التي يطاردها الزوج جيري بقسوة دموية لرغبته في العودة إليها. لكن ما يطارد بيتر هو مرض غامض فهو يعيش في بعض الأحيان لحظات ألم مروعة، يرى فيها الحشرات تزحف في كل مكان بل إنه يقول إنها تسبح في دمه، ويحكي لأجنيس عن تجربة تعرض لها عندما كان في الجيش، أصبح خلالها فأرا للتجارب للأطباء الذين حقنوه بتلك الحشرات، ولأنه نجح في الهرب فإن هناك من يلاحقه ليعيده لاستكمال التجربة مرة أخرى، مثل الدكتور سويت برايان اوبيرن الذي يظهر محاولا الإمساك بالبطل بيتر، الذي تنتابه نوبة من الجنون للدفاع عن نفسه، يسقط الطبيب على أثرها صريعا في غرفة الفندق التي غطى بيتر جدرانها بالرقائق المعدنية، وحشد فيها مصائد الحشرات التي تصدر ذلك الضوء الأزرق الشاحب، وهو المشهد الذي بدأ به الفيلم.تصاب اجنيس بالعدوى من بيتر، وهو ما يجعلهما أكثر اقترابا من بعضهما، وفي أحد المشاهد الرقيقة ينام بيتر على الأرض وقد أسند رأسه على اجنيس، فكأنه طفلها الذي ضاع منها منذ عامين ولم تره أبدا أو تعرف شيئا عن مصيره، لكن المأساة تكمن في أن المجتمع حول بطلينا لا يتركهما وحدهما، فنراهما يناضلان حتى لا يصبحان مرة أخرى مادة للتجارب، ويزداد اقتناعهما بأن هناك مؤامرة خبيثة تحاك ضدهما من الجميع. وحتى اللحظة الأخيرة فإن المتفرج سوف يحتار في تصنيف الفيلم، فهو ينتمي إلى نمط الأفلام النفسية، وأفلام الرعب في آن واحد، بل إنه في جانب منه يبدو قصة حب قد وضعت في ظروف مغرقة في الغرابة. أرجو أن تتأمل كيف اختار المخرج ويليام فريدكين في العديد من المشاهد زاوية الكاميرا من أعلى، وكأنها من عين مراقب غامض مما يؤكد الإحساس بالمؤامرة، لكنه في مشاهد أخرى يختار الكاميرا الساكنة تماما ليترك للممثل أو الممثلة الفرصة كاملة لملء الشحنة الدرامية، كما في لحظة رواية اجنيس لبيتر عن طفلها الضائع، ليظهر وجه آشلي جود في لقطة مقربة لفترة طويلة من الزمن بينما يعتصرها الألم. من جانب آخر فإن الصوت يلعب دورا مهما في هذا العالم التعبيري، مثل صوت الهاتف المزعج، أو عندما يتحول صوت مروحة الغرفة إلى هدير طائرة مروحية تطارد البطلين، وقد يبدو العالم الدرامي للفيلم غامضا إلى حد ما بالنسبة للمتفرج لكنه يجسد عالم البارانويا السائدة بأشكال متعددة وعلى كل المستويات في المجتمع الأمريكي الراهن، حيث يضيع الخط الفاصل بين العقل والجنون.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"