شقائق الطين

02:44 صباحا
قراءة 7 دقائق

يوسف أبولوز

(1)

كيف يكتب عن البيت مَنْ ليس له بيت إلاّ في المجاز الشعري، وقد سوّى من اللغة معماريات مصفوفة حولها شجر طويل هو السرو، كأن الأشجار حارسة البيوت منذ أن شيّد المعماري الأول بيت العائلة.. البيت الذي هو دولة العائلة.

اضطر الإنسان، كما يبدو من سياقه المعيشي الأرضي إلى بناء بيت عندما أصبحت لديه عائلة، أما هو كفرد وحيد محمول دائماً على ظلّه إلى المجهول، فقد اكتفى بالأشجار أو أدغال الأشجار، والكهوف، والمغائر، ليحمي نفسه من الحرّ ومن البرد، ولينام في محميّاته الأولى تلك قرير العين، كما يقولون، أو أنه كان يتقمّص نومة الذئب: عين مفتّحة، وعين مغلقة.

حاجة الإنسان إلى بيت، جعلت منه معمارياً أو بَنّاءً عليه أن يعتمد على خياله الفطري آنذاك، والحاجة إلى الاختراع، وسوف يبني بيته أولاً من أغصان الأشجار، والخشب، والخصف. إنه بيته الزراعي أو بيته الريفي الأول بلا باب وبلا عتبة وبلا نافذة، ولكن دائماً وأبداً لا بدّ من سقف. إن بيتاً بلا سقف هو هاوية مفتوحة إلى أعلى. فراغ مطلق يتجه إلى السماء. والسقف بالنسبة للبيت هو الغطاء بالنسبة للصندوق. إن البيت كما هو دولة هو أيضاً صندوق.. صندوق محكم بباب وقفل ومفتاح كي يطمئن الإنسان إلى خصوصيته البشرية حتى لو كان ليس في حاجة إلى هذه الخصوصية، طالما أن العالم كان في حياة الساكن الفطري الأول أقل بشراً، وأقل بيوتاً..

بعد الخشب، والأغصان، والخصف، اهتدى ذلك البنّاء الزراعي إلى الطين، صنع الفخّار من الطين وهو لا يعلم أن تلك الألواح المطبوخة في النار ستكون ذات يوم لُقى آثارية يتهافت عليها المؤرّخون، وعلماء الأنثروبولوجيا الذين يقوم جزء من عملهم على الحفر في البيوت، في أساساتها، وفي عتباتها وأدراجها ونوافذها وسقوفها بحثاً عن أثر إنساني أو حيواني يصلح برهاناً علمياً لمعطيات التاريخ.

لم يتعب البنّاء الأول الذي تحوّل إلى معماري عندما اكتشف أن الحجر أكثر ديمومة من الطين. فأخذ ينحتُ بيوتاً في الحجارة. وربما كانت البتراء في جنوبي الأردن أكبر بيت حجري منحوت في التاريخ كلّه، بل، هي أكبر عمل نحتي تحوّل على يد نحّاتي زمانها إلى دولة من الحجر. دولة حجرية في بيت حجري واحد.

يكتشف المعماري الطوب، ويتحوّل إلى مهندس، وسيجعل من السقف قبة نحتية جمالية مسطّحة أو هرمية أو مثلثّة، وقد اهتدى إلى القرميد.. تلك المادة الأشبه بشقيقة للطين. قرميد أحمر، وأخضر في الغالب هو ذلك الذي يرتفع على السقوف التي كانت ذات يوم مرفوعة على دعامات من الخشب، والخشب أيضاً حقل آخر للأنثروبولوجي والآثاري والمؤرّخ.. هؤلاء الذين يقرأون تاريخ الخشب و«أعصابه» وأليافه بحثاً عن حقائق الإنسان والحياة والكائنات التي كانت تسكن تلك البيوت القديمة.. التي لم يكن يعرف ساكنوها أنها ستكون ذات يوم كل الشغف الذي يملأ قلب الإنسان وهو مدفوع بفضوله المجنون نحو الاكتشاف، وتحويل الأثر أو الطلل الحجري إلى بحث علمي تقوم عليه آلاف فرق العمل المجهّزة بالمعاول والعدسات المكبّرة، والمختبرات المتخصصة الموظفة كلها إلى التاريخ والجغرافية معاً.

يقول محمود درويش بما معناه البيوتُ تموت إذا غادرها ساكنوها،.. حسناً هذا أيضاً مجاز شعري، ولكن بالنسبة للآثاري والأنثروبولوجي فالأمر مختلف تماماً. إن البيت لا يموت إذا غادره ساكنوه. نعم، يصبح البيت حقلاً للبحث ومادة أرضية للفحص والدراسة والمعاينة. يصبح البيت القديم الطللي الحجري أو الطيني أو الفخّاري تراثاً مادياً محمياً بأسوار وأمن وموظفين مطلوب منهم حراسة هذا الأثر حراسة مشدّدة لأنه هوية تراثية ثقافية ومعنوية أيضاً بالغة الأهمية بالنسبة للدولة التي تعتبر الآثار التاريخية جزءاً من سيادتها، وعند سرقة أو نهب أو تهريب أثر تاريخي ما يؤدي ذلك إلى نزاعات علنية بين الدول.

(2)

البيت يحيل إلى مقاربات أو تأمّلات في ثنائية الباب والمفتاح، وهما من علامات البيت الرامزة إلى الأمان، والغلق، والخصوصية المحمية بهذين «الشيئين» اللذين يحوّلهما الإنسان إلى كينونة أو «كائنين» لاصقين بالبيت.

ما المضاف هنا إلى البيت بعد السقف الذي جَمّله الإنسان بالقرميد، أو حوّله إلى فضاء سكني جميل له جاذبية خاصة، وهو «التراس» الذي يبعث الحيوية في السقف، فيصبح السقف ليس مهجوراً كما هو الحال في الكثير من البيوت التي تستولي عليها الطيور، وبخاصة الحمام على سقوفها، وهو استيلاء جميل في كل الأحوال.

ما المضاف إلى البيت؟.. إنها العتبة..

العتبة مدخل البيت. إنها الفاصل المادّي بين فضاء الشارع «الخارج» وبين فضاء البيت «الدّاخل»، وفي الثقافة الشعبية، عندما نلج من العتبة إلى داخل البيت نسمّي بسم الله الرحمن الرحيم، وندخل برجلنا اليمنى، وفي الثقافة الشعبية أيضاً يُشار على الرجل الذي لم يتوفّق في زواجه لأمر في زوجته كأن لا تنجب أو أنها تنغص عليه حياته.. يشار عليه أن يغيّر عتبة بيته، والمقصود أن يتزوّج بامرأة أخرى، ونشير هنا إلى رؤيتين في الحلم فسّرهما ابن سيرين، فمن رأى أنه يخرج من بيت ضيّق خرج من هَمّ، والبيت بلا سقف، وقد طلعت فيه الشمس أو القمر فيدلّ على امرأة تتزوج هناك، والبيت المظلم امرأة سيئة الخلق رديئة، وإن رأته المرأة فرجل كذلك، وعند النابلسي فإن العتبة هي الدولة أو قيم الدار، فمن رآها قلعت من بابه عُزِلَ إن كان والياً، وإن رآها قلعت وغابت عن عينه، فإنه يموت صاحب الدّار.

نشير أيضاً في المعتقد الشعبي إلى الذبيحة التي يسفح دمَها صاحب البيت على العتبة عند الانتهاء من بناء بيت جديد، كشكل من أشكال التقرّب إلى الله، وإبعاد شرّ الحسد، لا بل هناك من يبللّ يده بدم الذبيحة ويطبع به على جدار البيت.

(3)

لا أحد يمكنه أن يزيد على المفكّر والشاعر والفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في كتابه الأكثر من رائع «جماليات المكان» الذي نقله إلى العربية الروائي الأردني غالب هلسا في أوائل ثمانينات القرن العشرين، فهو يخصص أوّل فصلين من الكتاب حول البيت.. الفصل الأول بعنوان «البيت: من القبو إلى العلّية دلالة الكوخ»، والفصل الثاني بعنوان «البيت والكون»، والفصلان جاءا في 87 صفحة من القطع الكبير.

يقرأ باشلار «البيت» قراءة ظاهراتية، تأمّلية، فكرية، فلسفية، ويعتمد في جزء مهم من قراءته على شواهد شعرية تتحدث عن البيت من ريلكه، اندريه لافون، لوي جوليم، جان لاروش، كما يعتمد على الرواية في قراءته لظاهرة البيت ومكوّناته مثل النافذة التي يعتبرها باشلار عين البيت. إن البيت بالنسبة لغاستون باشلار أكثر من منظر طبيعي، ويعتبره حالة نفسية، والبيت ينطق بالألفة، ويستدعي باشلار قول الباحثة آن باليف.. تقول: «عندما تطلب من الطفل أن يرسم بيته، فإنك تطلب إليه أن يكشف لك عن أعمق حلم للملجأ الذي يرى فيه سعادته. إن كان الطفل سعيداً فسوف يرسم بيتاً مريحاً تتوفر فيه الحماية والأمن، بيتاً مبنياً على أساسات عميقة الجذور..».

يؤكد باشلار في بحثه الظاهراتي أن البيت هو مكان الألفة، ومكان الصور، وقراءته للبيت هي أيضاً قراءة نفسية، ويرى أن البيت هو ركننا في العالم، ويقول.. «إنه كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى»، ويضيف باشلار: «البيت جسد وروح، وهو عالم الإنسان الأول قبل أن يُقذف بالإنسان في العالم كما يدّعي بعض الفلاسفة الميتافيزيقيين المتسرّعين، فإنه يجد مكانه في مهد البيت..».

يربط باشلار دائماً في بحثه الفلسفي ليس عن البيت فقط، بل في غالبية الظواهر التي يقرأ بين الحلم، وتحديداً حلم اليقظة، وبين الظاهرة موضوع بحثه.. يقول: «حين نحلم بالبيت الذي ولدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادة لفردوسنا المادي. هذا هو المناخ الذي يعيش الإنسان المحمي في داخله. سوف نعود إلى الملامح الأمومية للبيت..».

(4)

إلى الآن ما زلنا ندور بين بيوت البشر، البيوت التي بناها الإنسان منذ العريش والكهف والكوخ، وحتى الفيلّا أو القصر أو حتى القلعة. ولكنه هذا الإنسان لا يكف عن البناء، وفي الوقت نفسه لا يكف عن الهدم، وبينهما وظيفته الوسطية تلك التي ينشغل بها عندما يرى شقوقاً وقد عرت بيته.. إنه يرمم بيته. هذا البيت الذي يتقدم في العمر تماماً مثل ساكنه. يتشقق، ويتصدّع، ويتقشر طلاؤه، بل، يبدو كأن البيت يحدودب ويشيب، فلا يلبث أن يخرج الإنسان من بيته، أو يُطرد منه، أو يُستولى عليه، فينسف، ويجرف.. ويموت.

ولكن، بعيداً عن بيت الإنسان، ماذا عن البيوت الأخرى. البيوت التي ليست مجازاً شعرياً بالمرّة. بيوت تسكنها كائنات أخرى غير تلك الكائنات الإنسّية التي بدأت بالبوص والخشب، وانتهت بالحجر الأبيض الرخامي والقرميد.. إنها بيوت صغيرة، صدفية، أو مدرّعة، أو خيطية. بيوت متحركة دائماً. صلبة وبطيئة أو جامدة على جدار أو على شجرة. بيوت نقترحها في هذه المادة إلى جوار بيوت الإنسان، بعض هذه البيوت موجودة أو «مشيّدة» في بيوت الإنسان، مثل بيت العنكبوت.

بيت العنكبوت شبكة خيوط، ولكن من يتأمله جيداً هو عمل فني، وفي الوقت نفسه هو معجزة.

بيت السلحفاة «درقة صلبة» ثقيل وقاسٍ وعصيّ على الكسر أو الاقتلاع أو التجريف كما يجري لبيوت البشر، ولكن مقابل ذلك لا بدّ من البطء. كأن هذا الكائن الذي اختار بيتاً ثقيلاً هو كائن فلسفي يأخذ حكمته من اليابسة، ومن الماء.

إنه البيت. الوطن والملجأ والملاذ والمسكن والمبيت. دولة الإنسان الكائن القويّ الجبروتي العبقري السريع، ودولة الكائن الصدفي القوقعي البطيء.

شقاء يومي

ماذا عن بيت الحلزون؟.. صدفة أو قوقعة هشّة يسهل هرسها أو تحطيمها بعكس درع السلحفاة، هذا الكائن الذي يزحف ببيته على الحجارة عادةً وقد ترك سائلاً لزجاً على وجه الحجر. أثر يدلّ عليه، كأنما يقول تعالوا وخذوني.

على كل الشقاء الوجودي واليومي الذي يعانيه الحلزون من هذا البيت المخروطي الصّدفي الذي يزحف به إلى قدره المحتوم، كما تزحف السلحفاة ببطئها الأبدي وهي تحمل بيتها على ظهرها، إلاّ أن هذين الكائنين لم يتخلّيا أبداً على بيتيهما ولم يقايضاه ولم يساوما عليه، ولم يغيّرها كما تغيّر الأفعى جلدها، كما تغيّر الحرباء لونها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"