قراءة في فصول من ترويض الماء

تاريخ الصرخة الأولى ونهايتها
05:32 صباحا
قراءة 5 دقائق

عن موت طائر البحر عنوان قصيدة شهيرة لعبدالوهاب البياتي يهديها إلى ذكرى أرنستوتشي جيفارا، هذا الأخير وفق البياتي ينتمي إلى زمن مدن الثورات المغدورة لم يبق منه إلا ذكرى الطير الحلق بأجنحته فوق الماء، لقد عبرت أفكار جيفارا البحار والمحيطات وأحدثت تغيرات ما زالت أصداؤها بيننا حتى الآن، ولكن هذا الطير/ جيفارا لم يعد له في قصيدة البياتي أي فعالية واقعية بعدما سيطر بوليس الدول الكبرى على البحر الأبيض.

الماء سردية كبرى لا يمكن قراءة رموزه ودلالاته بعيداً عن أفكار الإنسان ورؤاه الأساسية، لا يستمد الماء أهميته من اعتباره المادة الطبيعية التي تحفظ للبشر وجودهم المادي فحسب، وإنما ارتبط هذا الوجود البيولوجي أيضاً بتاريخ طويل من الصراع وإنتاج الصور الذهنية، سرديات الماء ليست جماليات أدبية أو فلسفية فقط، ولكنها كذلك مفاتيح يمكن عبرها الدخول إلى المناطق المظلمة والمؤلمة في تاريخ البشر. الماء يساوي الإنسان، وجهه، قناعه، ذاتيته، غيرته، الأنا، الآخر.

استوقفني في ملتقى شاهندة في دورته الثانية والذي استضافته عجمان خلال الأسبوع الماضي وجاء ليبحث سرديات الماء الكبرى من خلال تركيز الأوراق المطروحة على تيمات الماء الأساسية. لاحظت أن فتنة الشاعري باشلار تهيمن على الجميع. لقد تحدث باشلار في كتابه الماء والأحلام عن المياه: الرقراقة، الربيعية، العاشقة، أخلاق الماء الطهر والتطهر، الماء العذب، الماء العنيف، ملحمة يصوغها باشلار معتمداً على ما يطلق عليه علم نفس الخيال ومنطلقاً في الوقت ذاته من عين جميلة تبصر كل ما هو جميل.

فرضت الفتنة الباشلارية بالماء على الملتقى تيمات أو منمنمات أو محاور تبدأ من قيم أو رموز الماء الكبرى التطهر والانبعاث والخصوبة ولم تنته برصد تجليات تيمات الماء في الآداب العالمية، بما فيها الأدب العربي عموماً والإماراتي على وجه التحديد، ومروراً بالأساطير المرتبطة بالماء في الحضارات القديمة: الإغريقية والبابلية والمصرية.

تفرض علينا الفتنة بباشلار أيضاً ترديد مقولته لا نهائي هو عذاب الماء. عندما تفتح كتب التراث العربي خاصة ما يتعلق منها بحقلي الجغرافيا والرحلات نقرأ عند الادريسي والمسعودي والاصطخري مصطلح البحر المحيط، نشعر بالخوف ونحن نستحضر الخيال الجمعي لهؤلاء وهم يتحدثون عن ذلك البحر بوصفه يحيط بالأرض من جميع الجهات، لا نهاية لامتداده وبرودته يفجعنا الحزن عندما يتحول المصطلح إلى بحر الظلمات.

سيخترق المغامر كولومبس هذا البحر ليصل إلى الأرض الجديدة مخالفاً بذلك التصورات القديمة كلها، ستتخطى أوروبا عصورها المظلمة بعبورها بحر الظلمات. وبعد كل هذه القرون نشعر أكثر بثقل المصطلح ودلالاته الكابوسية ولا نعرف الآن هل كانت الظلمات اللاحقة بالبحر في المصطلح محيطة بأسلافنا، هنا وفي الغرب، أم كانت طوق النجاة الحامي لأهل الأرض الجديدة من وحشية الاستعمار ومجازر الإبادة التي ارتكبها هناك؟

هو عذاب الماء إذن والماء الثقيل بصفة خاصة الممزوج بالملح، وللأخير أساطيره وتيماته وتاريخه التي لا يتسع المقام لذكرها هنا، ولكن عبور هذا الماء المركب أدخل أوروبا عصر الكشوف الجغرافية. الاستعمار يرافق نهب ثروات الشعوب والتحكم في مصائرها ولكن هل أفلت الوجدان الغربي من لعنات بحر الظلمات؟

يلخص هيرمان ملفيل في موبي ديك جانباً مهماً من مأساة الغرب في قرونه الأخيرة، البطل يقضي سنوات طويلة من عمره في البحث عن حوت أبيض بمواصفات خرافية، الرغبة في الثأر أو التطهر أو إنهاء الحياة بحثاً عن ما لا يتحقق أبداً يدفع بالبطل ليقضي على نفسه بعد أن يعثر على أسطورته الخاصة، بياض الحوت مضاد لبحر الظلمات وكلها تيمات موجودة بكثرة في معظم الإنتاج الأدبي في الغرب. هل يرمز البحر إلى الاستعمار والحوت إلى الأرض الجديدة؟ وهل تشعرنا النهاية برغبة غريبة في التطهر؟ كلها أسئلة تأويلية خاضعة للأخذ والرد. ولكن نفس الفكرة تتكرر في قلب الظلام لجوزيف كونراد والعجوز والبحر لهيمنجواي وحتى في أفلام الطيور لهيتشكوك وعالم المياه لميل جيبسون. البحر الذي حمل الجيوش الغازية تحول إلى لعنة تصيب الروح في مقتل أنه الزمن الضائع في الحب في زمن الكوليرا لماركيز أو العذاب السرمدي كما نشعر مع بطل الصيف الأخير لهيرمان هيسه.

حصار لمدائح البحر عنوان ديوان لمحمود درويش، ذلك المفتون هو الآخر بالبحر، شعر درويش مسكون بهاجس البحر، مرآة طبيعية ليرى فيها الآخر ما ارتكبه في حق الشعوب المستعمرة من جرائم. بحر درويش وسيلة للخلاص: للرحيل، السفر، الهجرة، الخروج من حالة حصار لا نهائية. الأسطورة الصهيونية تحلم بإلقاء غزة في البحر وقادة إسرائيل يتمنون ذلك الآن. حولت الصهيونية، يمكن تسميتها بأعلى مراحل الاستعمار مع الاعتذار للينين، البحر من مكان يمكن عبوره لإبادة الآخر إلى أداة للإبادة نفسها. الماء هنا عنيف ومؤذٍ وقائل ليس مكاناً للعشق أو الرزق أو التطهر كما نقرأ في الآداب المؤنسنة، ولكنه أيضاً وسيلة لإسكات الآخر والقضاء عليه ولكن ماذا عن الماء العذب.. ماء الحياة أو الماء الإنساني؟

ليس الماء وحده جواباً عن العطش عنوان رمزي لآخر دواوين أدونيس يطرح أسئلة مهمة بخصوص جدلية ثنائية الماء/ العطش، ما يهمنا هنا الماء العذب الذي يفتح أمامنا سردية أخرى مؤلمة. الماء كجواب وحيد لسؤال العطش والذي الملح دفع فلاسفة الإغريق إلى ضمه داخل مكونات الوجود الأربعة إضافة إلى الهواء والتراب والنار والماء كدلالة على ظمأ الإنسان إلى المعرفة جعلنا نربطه بانبعاث أوزوريس مرة أخرى وكل تيمات الخصب اللاحقة والسابقة في حضارات المنطقة الممتدة من بلاد الشام إلى الهند، والماء الخفيف أو الرقراق المنتج للوجه النرسيسي العاشق لذاته أنتج عنصريته الخاصة في عصر صناعة الصور الذهنية المرافق للاستعمار.

الصورة الذهنية المشوهة جاءت هذه المرة من الاقتصاد السياسي وخاصة من دعوات اليسار لمستقبل أفضل للبشرية، حير نمط الإنتاج الشرقي أقطاب اليسار منذ ماركس وربما حتى الآن حيث لم تغلق هذه المسألة. ارتبط نمط الإنتاج في الشرق بالنهر في الصين والهند وبدرجة ما العراق ومصر وفقاً لهذه النظرية، التي سميت في أدبيات الاقتصاد السياسي نمط الإنتاج الآسيوي وفي أدبيات الاستشراق نمط الإنتاج الشرقي، فإن زراعة الأرض واستقرار البشر عليها يتطلب ضبطاً لمياه النهر وإقامة السدود والجسور اللازمة لعملية الضبط هذه، الأمر الذي يستدعي بدوره قيام حكومة مركزية مستبدة تقهر رعاياها، ومن هنا نشأت فكرة الملك الإله والذي تحول مع الزمن إلى الطاغية أو الديكتاتور واللافت في هذه الفكرة، المقولة، النظرية أنها أصبحت معبرة عن الشرق بأكمله، ذلك الذي لا يوجد فيه إلا فرد واحد ووحيد حر وبقية البشر ينتمون إلى فئة العبيد وفق رؤية هيجل الشهيرة واللافت أكثر تسمية أخرى للنظرية ذات دلالة ترتبط بموضوعنا هنا وتلخص ما سعينا إليه فتلك النظرية أطلق عليها في أدبيات أخرى الاستبداد المائي أو النهري.

هل الماء العذب، الماء الخفيف، ماء الحياة مستبد أو مخترع للاستبداد؟ لا نود الدخول في جدل حول هذه الفرضية، فهي حتى الآن موضع نظر داخل حقل دراسات الاقتصاد السياسي، ولكننا هنا نتذكر ثورة الزنج في سواد العراق وأرض عبدالرحمن الشرقاوي وشخصية غاندي الخصبة كأنهار الهند. الماء العذب أداة للثورة أيضاً كما هو وسيلة للقهر، كتاب في الجغرافيا يفتتح ملحمة في التاريخ كما يقول جمال حمدان ذلك المفتون بمصر ونيلها. الماء العذب هو النقيض الطبيعي لمدن عبدالرحمن منيف الملحية والمثير في خيالاتنا ذكريات ألقه عندما نستعيد النماذج البشرية في جسر على نهر درينا.

نعود مرة أخرى إلى الشاعري باشلار، يقول ان المحيط طرف من خوف وإن الماء المالح ماء غير إنساني. في العديد من أفلام الخيال العلمي هناك طوفان مستعاد ينهي الحياة البشرية، ويذكرنا التسونامي بهذه الخاتمة الكابوسية، وفي المقابل نحن نولد ونستقبل الحياة بالخروج من كيس مائي ونعيش طوال حياتنا بالاعتماد على الماء العذب الخفيف، وبين صرخة البداية ورعب النهاية نحتفي بسرديتين للماء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"