قمة هانوي.. «العقوبات» تجهض المباحثات

03:44 صباحا
قراءة 5 دقائق
د.محمد فراج أبو النور*

على الرغم من أجواء التفاؤل، التي أحاطت بالقمة (الأمريكية- الكورية الشمالية) في هانوي (27 و28 فبراير/شباط)، والتي استمرت طوال يومها الأول وصباح يومها الثاني، فوجئ العالم بانهيار مباحثات القمة قبل قليل من انتهائها، وإلغاء غداء العمل، الذي كان مقرراً لأعضاء الوفدين، وكذلك مراسم توقيع البيان الختامي للقمة.
كان بديهياً أن يُلقي كل طرف بمسؤولية الفشل على الطرف الآخر، إلا أنه من الضروري ملاحظة أن ذلك قد تم بلغة دبلوماسية منضبطة مع الحرص على إعلان أن المفاوضات ستتواصل، وأن الحوار سيستمر، وإن لم يتم تحديد موعد القمة القادمة؛ بل إن ترامب قد حرص على الإشادة بالزعيم الكوري، وبقوة العلاقة بين الطرفين، وهذا في حد ذاته يعد أمراً مهماً وإيجابياً.
موضوع الخلاف الرئيسي، الذي أدى لانهيار المحادثات، كان حول ما ينبغي أن يقدمه كل طرف، مقابل الخطوات التي سيتخذها الطرف الآخر، وتحديداً حول رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية على كوريا الشمالية، مقابل التزام الأخيرة بالبدء في تفكيك عناصر برنامجها النووي، وتحديداً مفاعل «يونجبيون» الرئيسي؛ بعد أن أوقفت تجاربها النووية والصاروخية، وأعلن رئيسها كيم جونج أون مجدداً تعهد بلاده بالتخلي عن أسلحتها النووية.
وقد أعلن ترامب أن الجانب الكوري الشمالي يطالب بإلغاء (كل) العقوبات الاقتصادية الأمريكية، وأنه -ترامب- لا يستطيع أن يوافق على ذلك؛ بل على رفع جزئي فقط للعقوبات، بينما أعلن وزير خارجية بيونج يانج أن بلاده طالبت بإلغاء (كل) العقوبات «المُتصلة مباشرة بالاقتصاد المدني» فقط، وأنها في المقابل توافق على البدء في تفكيك منشأة «يونجبيون» الرئيسية تحت إشراف خبراء أمريكيين، والحقيقة أن هذا أمر يختلف عن العقوبات الاقتصادية بمفهومها الشامل، الذي يمتد إلى المشروعات ذات الطابع المدني- العسكري المزدوج، أو التي يمكن أن تساعد على خدمة المجهود الحربي بأي صورة من الصور.
أما وزير الخارجية الأمريكي بومبيو، فمع تأكيده رفض الإلغاء الكلي للعقوبات الاقتصادية، قال: إن واشنطن كانت تريد تحقيق مطالب أخرى؛ أي «شيء ما آخر» إلى جانب «يونجبيون»، ومن خلال التصريحات السابقة له ولمسؤولين أمريكيين آخرين، فقد كان المطلوب أن تتعهد كوريا الشمالية بالتوقف الفوري عن تخصيب اليورانيوم، وتفكيك منشآت نووية أخرى ذات طابع بحثي، أو إخضاعها للتفتيش الأمريكي، بما في ذلك منشأة نووية سرية أشارت تقارير المخابرات الأمريكية إلى اكتشافها مؤخراً، وبالطبع من دون أن يكون المقابل هو الإلغاء الكامل للعقوبات الاقتصادية الأمريكية، حتى لو كانت تلك العقوبات «المتصلة مباشرة بالاقتصاد المدني» كما صرّح وزير الخارجية الكوري الشمالي، وهكذا، فإن انعدام الثقة كان واسعاً بين الطرفين.
وهنا قد يكون من الضروري أن نعيد إلى الذاكرة تصريحات ترامب قبل القمة، التي أشاعت أجواء من التفاؤل المبالغ فيه- على ضوء ما تكشف في المفاوضات- فقد تحدث عن «حشد الاستثمارات» الأمريكية والغربية وتوجيهها للاقتصاد الكوري الشمالي، وعن مساعدات اقتصادية لبيونج يانج، وهو ما يتجاوز- بداهة- إلغاء العقوبات الأمريكية؛ بل وتحدث عن إمكانية تحول كوريا الشمالية إلى قوة اقتصادية كبرى و«صاروخ اقتصادي»، وكال المديح للزعيم الكوري، متحدثاً بحرارة عن العلاقات الجيدة للغاية بينهما.. إلخ.. وهو ما خلق أجواء التفاؤل الكبير لدى المراقبين، وقد تعرض ترامب بسببه لانتقادات واسعة في الإعلام الأمريكي والأوساط السياسية على السواء.
واضح أن هذا أسلوب يخص ترامب، ويتصور أنه يخلق أجواء مواتية حول المفاوضات، ويؤثر في الزعماء المتفاوضين معه، وهو أسلوب قد يصلح في عالم المال والأعمال؛ لكن صلاحيته غير محتمة تماماً حين يتعلق الأمر بقضايا سياسية واستراتيجية على أعلى مستوى من الجدية والخطورة، كما أن التلويح بالمساعدات الاقتصادية السخية والاستثمارات الوفيرة.. إلخ هو (كلام) يمكن أن يقوله الرئيس كما يشاء؛ لكن صلاحيات تنفيذه تؤول في النهاية إلى (الاستابلشمنت) الأمريكية، التي تملك إمكانية إجهاض أي اتفاقات لا تريدها، وقد رأينا مصير هذا الأسلوب الترامبي مع بوتين وروسيا، وكيف تم إجهاض نتائج القمتين بين رئيسي القوتين العملاقتين.
ومن نافلة القول، أن نشير إلى أن شعوب شرق آسيا، بما تتسم به من حكمة ودهاء، لا تنطلي عليها مثل هذه الأساليب، ولاحظنا كيف أن بيونج يانج التزمت الصمت تجاه تصريحات ترامب في انتظار ما سوف يطرح على مائدة المفاوضات، وهو ما لم يكن ترامب يملك فعلياً أن يطرح أكثر منه، في الوقت الراهن على الأقل، وما لم تكن كوريا الشمالية تستطيع أن تقبل به.
لقد أشرنا في مقالنا السابق حول القمة (الخليج- 28 فبراير/شباط 2019) إلى أن المبدأ الحاكم لبيونج يانج في مفاوضاتها مع واشنطن هو مبدأ (التزامن في تقديم التنازلات المتوازنة) مع كل تقدم في بناء الثقة مع المفاوض الأمريكي، مع الحرص على وجود ضمانات راسخة للحل النهائي، وينبع ذلك في الحقيقة من أن كوريا الشمالية دولة صغيرة (وضعيفة) إذا ما قورنت إمكاناتها حتى بإمكانات شقيقتها الجنوبية، ناهيك عن أمريكا، ولعل هذا كان السبب الرئيسي في حرص بيونج يانج على امتلاك برنامج نووي وصاروخي خاص بها، بالرغم من الكُلفة الفادحة لهذا البرنامج، خاصة بالنسبة لاقتصادها الصغير، ومن تأثير سلبي للغاية على مستوى حياة شعبها.
فهناك تاريخ طويل من العداء تجاه واشنطن وبيونج يانج، منذ الحرب الكورية (1950-1953)، التي انتهت بتقسيم الشعبين وشبه الجزيرة، ومن دون وجود (الرادع النووي) فإن كوريا الشمالية تظل معرضة للاجتياح والاندثار كدولة، والحامي الصيني أو الروسي، يمكن أن تتغير سياسته لسبب أو لآخر، ولن يخوض حرباً نووية من أجلها؛ ولذلك فإنها لن تتخلى عن سلاحها النووي من دون تأكدها من الحصول على سلام راسخ تضمنه القوى الكبرى المجاورة (الصين وروسيا) ويتضمن إبرام معاهدة سلام نهائية بينها وبين كوريا الجنوبية، وعلاقات تعاون اقتصادي وثيقة مع سيؤول- فضلاً عن إزالة القواعد النووية الأمريكية وسحب القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية- أي (إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي، وليس نزع سلاح كوريا الشمالية وحدها). وهذا هو جوهر إعلان (بانمونجوم/ إبريل 2018) بين الكوريتين، كما أن هذا هو ما يفتح الباب لاستعادة وحدة الدولتين والشعب الكوري الواحد (وهو هدف تاريخي ينص عليه الدستور في كل من الدولتين) على أسس كريمة ولائقة بالنسبة للشمال الأضعف والأفقر.
ولهذه الأسباب كلها فإن كوريا الشمالية تعد التخلي عن سلاحها النووي يمثل نوعاً من الانتحار، ما لم يرتبط ذلك بالضمانات التي أشرنا إليها، وبالتالي فإنها لا تستطيع أن تقدم التنازلات في مجال تفكيك برنامجها النووي (بالجملة) - كما يريد الأمريكيون - وإنما (بالتدريج وبالتزامن) مع خطوات الطرف الآخر، ومع تنامي الثقة والضمانات، وهو ما بدأت واشنطن تتفهمه مؤخراً، وبمساعدة كوريا الجنوبية.
ولهذا أيضاً فإن أسباب التفاؤل (التاريخي) تظل قائمة بغض النظر عن فشل هذه القمة أو تلك.

*كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"